تعتبر سلطنة "بروناي" من أصغر دول منظومة آسيان الجنوب شرق آسيوية مساحة (5.7 آلاف كيلومتر مربع) وأقلها سكاناً (425 ألف نسمة فقط، 78 بالمائة منهم يدينون بالإسلام)، لكنها الأغنى بسبب عوائدها من ثروات النفط والغاز الطبيعي، علماً بأن هذه العوائد تأثرت مؤخراً بتذبذب أسعار النفط عالمياً، الأمر الذي جعل حكومة "السلطان الحاج حسن بلقية معز الدين وعدالله" تتجه ــ مثلما فعلت دول نفطية عدة في الشرق الأوسط ــ لتنويع اقتصادها تحاشياً لمستقبل قاتم في أسواق النفط والغاز العالمية، وتحسباً لتداعياته المحتملة على مجمل أوضاع البلاد.
من جهة أخرى تقع بروناي قرب الساحل الشرقي لجزيرة "بورنيو" الماليزية على طول بحر الصين الجنوبي عبر المياه الجنوبية المواجهة لفيتنام، وبهذه الصفة فهي، كما غيرها من دول جنوب شرق آسيا، لها مزاعم سيادية على بعض الجزر غير المأهولة ذات الثروات الطبيعية من تلك التي تسيطر عليها الصين وتدعي أحقيتها بها.
غير أن الملاحظ في هذا السياق أن بروناي من أقل دول المنطقة إثارة لقضيتها مع الصين في المحافل الدولية ووسائل الإعلام المختلفة. وبمعنى آخر لم يلحظ أن السلطنة أقدمت على ما فعلته جاراتها مثل ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وفيتنام لجهة طرح مزاعمها السيادية بصوت مسموع إلى درجة أن بعض الساسة الماليزيين زعم بأنها تخلت عن مطالبها. هذا الصوت غير المسموع ربما سببه أن بروناي تعي حقيقة كونها أضعف دول المنطقة من الناحيتين العسكرية والدبلوماسية، أو ربما لأن حكومة السلطان "بلقية" تحاول الحفاظ على علاقاتها التجارية المتنامية مع التنين الصيني، حيث تمثل بكين عصب حركة واردات وصادرات السلطنة، أو ربما لأنها تسعي إلى جذب المزيد من الاستثمارات الصينية إلى أراضيها.
ربما كان كل ما ذكرناه هنا معروفاً للجميع، لكن ما هو ليس معروفاً أن بروناي ترتبط منذ عام 1994 بروابط عسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية التي تحاول اليوم بناء تحالف آسيوي قوي في مواجهة ما تسميه " النزعة العسكرية الصينية المتنامية للهيمنة والتوسع" في بحر الصين الجنوبي وامتداداته. ففي ذلك العام وقعت واشنطن و"بندر سيري بيغاوان" مذكرة تفاهم حول التعاون العسكري والدفاعي، وهي المذكرة التي سرعان ما تم ترجمتها في العام التالي بمناورات عسكرية مشتركة وتقديم برنامج أميركي لتدريب القوات البروناوية. وبموجب تلك الاتفاقية تكررت المناورات والتمارين العسكرية المشتركة البحرية والبرية والجوية بين البلدين في عامي 2014 و2015 .
غير أن المناورات المشتركة التي جرت في يونيو من العام الجاري تحت اسم "بهلوان" استرعت الانتباه وحظيت بمتابعة غير مسبوقة، وخصوصاً من الصينيين، لسببين، أولهما أنها كانت المناورات المشتركة الأولى بين البلدين في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب المعروف بمواقفه الصلبة تجاه الصين وتجاه قضية تأمين الملاحة الدولية في بحر الصين الجنوبي، دعك من تأييده للمطالب السيادية لخمس من دول آسيان على مجموعة جزر سبراتلي وباراسيل . وثانيها أن المناورات تميزت هذه المرة بجملة من الأمور غير المعهودة في المناورات السابقة مثل: امتدادها لأربعة أيام بلياليها، واشتراك 33 قطعة عسكرية أميركية فيها، بالإضافة إلى عناصر من الجيش الملكي البري للسلطنة وقطع من البحرية الهندية وعناصر من سلاح الحدود الهندي. هذا ناهيك عن طبيعة المناورات التي شملت تدريب قوات السلطنة على اقتحام الأدغال الوعرة وعمليات الاتصال والإنقاذ وتقنيات الكمائن وتحرير المباني من عدو محتمل بإنزال الطائرات العمودية على أسطحها. كما أن مناورات يونيو المنصرم شهدت التزام الجانب الأميركي لأول مرة بالقوانين الإسلامية الصارمة المطبقة في السلطنة، تحاشياً لأي خلافات قد يؤثر سلباً على إجراء المناورات.
ومن هنا قيل إن بروناي الصغيرة في وضع لا تحسد عليه، فهي من جهة تسعى إلى عدم إغضاب التنين الصيني وتحاول قدر المستطاع بناء علاقات صداقة معه، جذباً لاستثماراته في وقت عصيب لا يمكن للسلطنة فيه أن تعتمد فقط على ثرواتها من النفط والغاز كالسابق، علماً بأن الصين تستثمر حالياً نحو أربعة بلايين دولار في بروناي في بناء مجمع ضخم لتكرير النفط والصناعات البتروكيميائية في العاصمة "بندر سيري بيغاوان"، ناهيك عن أنها وعدت باستثمار ما لا يقل عن 12 بليون دولار آخر لتوسعة هذه المنشأة مستقبلًا. وهي (أي بروناي) من جهة أخرى لا تستطيع التخلي عن الدعم العسكري الأميركي لحماية نفسها وتأكيد مطالبها السيادية على الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، خصوصاً وأن جارتها الماليزية تنازعها في ملكية بعض من هذه الجزر أيضاً.

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي