الحديث عن فساد الإعلام العربي وفساد بعض الإعلاميين ليس حديثا جديدا يطرح أرقاً وهماً يعيشه الإعلامي قبل المسؤول، وليس هاجسا يقض مضاجع القلم والكلمة الشريفة ولكنه مثل فيروس الإيدز ينخر في الجسم الإعلامي العربي ويسقط تحت مطرقة الهبات والهدايا والعطايا والسجون كل مقاومة جادة للكشف عن المستور والبحث عن المسروق من أموال الشعوب، ويطبل بقوة على طبل الإنجازات الوهمية وينفخ حتى تتمزق أوداجه في مزامير الكذب والنفاق· لقد صنعت الكثير من الأنظمة العربية وخاصة الثورجية منها مرجعيات إعلامية، وتمادت هذه المرجعيات الإعلامية ووصلت إلى حد التورم واستولت على القلم وسرقت الميكروفون واغتالت الكاميرا وروجت لفكرة الصوت الأوحد والرأي الأصوب·
كانت فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي فترة البزوغ الذهبي للصحافة العربية المهاجرة· وكانت أهم أهداف الصحافة العربية المهجرية إطلاق رؤية جديدة لإعلام عربي فاعل ومؤثر قادر على مناقشة مجمل قضايا الوطن العربي، ولكن الأهداف الجميلة والتوجهات التنموية والإصلاحية لذلك الإعلام المهاجر اغتيلت بلمح البصر وتواتر الأنباء عن قيام أنظمة عربية ودول لا زالت تتنسم أول هبات نسائم الانعتاق من الاستعمار، بالاستيلاء على مطبوعات بعينها وتحويلها تحت سطوة البترودولار إلى أبواق خارجية لقمع أية فكرة داخلية، وبقدرة قادر تحول الكثير من الصحفيين من أصحاب المبادئ إلى سماسرة ومقاولين بالباطن للدفاع عن أنظمة بعينها، وكل كلمة تسطر وكل موضوع ينشر وكل صورة تصور الرمز وهو يفتتح مستشفى أو يصدق على حكم بالإعدام أو تكريم الجموع بحضور حفلة عرس أو طهور· لكل مناسبة من هذه وبعدد الإطناب والمديح والنفاق كانت تسطر الشيكات أو تحمل الأوراق الخضراء والزرقاء والحمراء على ظهور البغال الطائرة لتستقر تحت حذاء الصحفي المهم في مكتبه اللندني أو الباريسي أو التكساسي· ولا تخفى على القارئ الكريم قائمة طويلة من هؤلاء الكتبة الكسبة الذين كانت تسطر الشيكات بأسمائهم فترتفع أسهمهم وتتورم حساباتهم بينما يمنع صحفي شريف أو يسجن لأنه أراد أن يقول كلمة حق في سلطان جائر·
فساد الصحافة العربية المهاجرة وفساد بعض الرموز فيها لا ينفي أن هناك صحافة عربية شريفة نزيهة قامت على فكرة الحق والدفاع عن الإنسان العربي وتعرية بعض المسؤولين، وهذه الصحافة ليس لها من الود نصيب لا بل إن الكثير من صحفها يصادر في المطارات وكتبها تسحب من المكتبات ولا تصل إليها الشيكات إن هي حادت عن الدرب المرسوم والخط الموسوم·
حدثني إعلامي خليجي كبير ذات عام عن فساد الإعلام العربي وخاصة فساد الرسالة الإعلامية في موطنه وكيف أن صحفيين عرباً كثراً قد ساهموا في إضفاء هالة من التبجيل والتمجيد على الكثيرين من أصحاب القرار في المؤسسات المختلفة وصوروهم وهم يخوضون حمى الانتخابات بأنهم الرحمة الربانية المرسلة لاجتثاث الفساد والدفع بعجلة التنمية، وكيف أنه كان على هذا المسؤول أن يختار صحفيين بعينهم لأداء هذه المهام إرضاء لمسؤول هنا ومسؤول هناك· وكيف أنه كان متمتعا بصلاحيات كبيرة للصرف على الصحفيين والإغداق عليهم بالهدايا واصطحابهم في جولات طابعها البذخ ومنهجها غسيل الدماغ وتزييف الوعي· وكيف أن أقل صحفي متدرب كان يخرج بحصيلة مالية تعادل راتبه السنوي في مقر عمله مع وعد بتوفير فرصة عمل مناسبة إن هو أجاد فن الردح والمدح· قلت لمحدثي ألم تكن أنت طرفا حقيقيا في هذه المهزلة الإعلامية؟ ولماذا تتحدث عنها الآن: هل هو الإحساس بوخز الضمير أم هي محاولة لتبرئة الذات؟
يمكن لأي متابع للشأن الإعلامي العربي أن يحدثكم عن مئات القصص والمواقف المشابهة، ولكن الأكثر مرارة من كل هذا وذاك يمكن أن نقتطفه من مقالة نشرت في جريدة عربية ذائعة الصيت أقتطف منها بعض العبارات لغرض التدليل على مسارات فساد الملح قبل فساد الفكرة· في فقرة من المقال يقول الكاتب: هاتفتني سكرتيرة السيد: وطلبت مني أن أحزم حقائبي لأنني مدعو للمشاركة في مناسبة إعلامية وأن تذكرتي على الدرجة الأولى ستكون في مكتب الطيران وقد اتخذت هي بناء على التعليمات كافة الإجراءات لاستخراج التأشيرة والحجز في جناح ملكي فاخر في أفخم فندق في المدينة·
يقول الصحفي ما أن حطت بي الطائرة على أرض المطار حتى صعد وفد رفيع المستوى لاستقبالي والترحيب بي ووجدت سيارة فاخرة تحت تصرفي بينما كان مرافقي في غاية اللطف طفق يدور بي في هذه المدينة الرائعة، مدينة المعجزة، وزرت معالم كثيرة لم أعهدها في أماكن أخرى· لقد عشت حالة من الحلم وعدم التصديق إلى أن دخلت غرفتي في الفندق الفخم وإخالني أدخل عالم الأسطورة·
في اليوم الثاني -ولا زال الحديث للصحفي- تشرفت بمقابلة السيد صاحب الدعوة، وبعد مجاملات اكتشفت أنني أمام شخصية عبقرية!! وإعلامي من الطراز الأول!! وسياسي محنك!! واقتصادي لا يشق له غبار، وقبل أن أودعه طلب مني تمديد الإقامة حتى يتسنى لي اكتشاف بقية قطع فسيفساء المعجزة الاقتصادية التي حققها· ويختتم الصحفي مق