(بالأمس كان المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم أبا للشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم وإخوانه، واليوم فإنني أنا أبوهم وعوضهم فيه، وهم عوضي أنا في أبيهم، كما أن صاحب السمو الشيخ مكتوم وإخوانه عوض شعب دولة الإمارات العربية المتحدة بما عرفته وعرفه هذا الشعب فيهم من حب وحرص وتفان في خدمة هذا الوطن)· من الذاكرة استعيد وهج الكلمات التي قالها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان غداة وفاة فقيد الوطن والأمة، رجل الإمارات وابنها البار المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم ''رحمه الله وطيب ثراه''·
إنها اللحظة التي يتجمد فيها الدم في العروق، وتقف الكلمات عاجزة عن النطق، عندما توالت الأخبار ووقفنا حيالها بين مصدق ومكذب، وهي تنقل لنا دمعة حارقة تتدحرج على خد الوطن وفي ضمير الأمة، ناعية غياب رمز من رموزها وعنوان من عناوين الخير والإباء والعطف الأبوي·
لقد تشرب حكمة الحكم في دار الشيخ راشد وتتلمذ على نهج الحب والوفاء، وفي حجر راشد تعلم مكتوم الأبجديات الأولى في ميدان السياسة وإدارة دفة الحكم· وأهل السياسة في الإمارات وفي دبي أقدر مني على وصف الرؤية السياسية التي كان ينتهجها مكتوم بمعية كل الذين التفوا حوله ليشكلوا مجلساً استشارياً·
عُرف مكتوم منذ البدايات بصفات شخصية أهلته لامتلاك قلوب الناس والوصول إلى أفئدة الجميع، فكان يجمع بين دماثة الخلق وطيب المعشر والتواضع الجم والأدب الرفيع· وكان مجلسه لا ينقطع عن استقبال طالبي الحاجات الذين كانوا يرون في مكتوم صورة المنقذ والأب الحاني، حتى أن الصغار من فتيان دبي كانوا يقصدون مجلسه أو يتحينون فرصة اللقاء به على قارعة الطريق، ويقف لهم باشاً مرحباً بابتسامة عريضة وقلب عامر بالحب والعطف· لم يكن مكتوم لطيبته المفرطة قادراً على رد سائل مكسور الخاطر دامع العينين مفطور الفؤاد·
مكتوم الذي رحل بعد عطاء وبذل وقدرة على الإمساك بدفة الحكومة الاتحادية نائباً لرئيس مجلس الوزراء ورئيساً للمجلس يقود سفينة السياسة تحت أفق وتوجيهات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لتسير سفينة الإمارات رغم تلاطم الأمواج وثقل المسؤولية مبحرة إلى شواطئ الأمان بين المتاهات السياسية المظلمة·
كان مكتوم لصيقاً براشد وبفكر راشد المنطلق لتحقيق مستقبل كان مستحيلا لإمارة يشقها الخور وتبحر فيها السفن الخشبية الصغيرة قاصدة موانئ الجوار القريب· وبرؤية راشد التي تشربها مكتوم، غادرت السفن موانئ دبي الحديثة لتبحر نحو المستقبل، وتستقبل السفن القادمة من شتى بقاع الأرض، وتتحول دبي إلى قبلة اقتصادية ومدينة عامرة بالفرص·
كان الفقيد مكتوم قريباً من كل قلب لصيقاً بالهم الاتحادي وحريصاً على مستقبل الإمارات قدر حرصه على مستقبل دبي، وعندما تبكيه القلوب اليوم، فإنها تبكي فيه خصاله الإنسانية الرائعة ومآثره من خلال أياديه البيضاء التي أقالت عثرات الكثيرين· لم يكن مكتوم طامعاً بكرسي الحكم قدر طمعه بأن تكون له في كل بقعة، يد حانية تمسح دمعة طفل يتيم، ويد أخرى تدفع بطالب للعلم إلى مدرجات الجامعة، ويد ثالثة تشيد بيتاً أو تؤثث مدرسة أو تعالج مريضاً· كان مكتوم الإنسان متسامياً فوق كل مظاهر الدنيا ومباهجها، حريصاً على أن يكون إنساناً ينبض قلبه بالحب وهو ذات القلب الذي توقف عن النبض ليحيلنا للغصة والألم والفقدان· ولكن ما زرعه راشد في روح ووجدان مكتوم أصبح مزروعاً لا بل متجذراً في من سيدير دفة الوطن وسيبقى خير خلف لخير سلف· لقد أوكل مكتوم شؤون إدارة الإمارة لإخوته الذين توسم فيهم الخير والقدرة والمقدرة ولم يخب الظن بهم، فقد تحولت إمارة دبي إلى جنة للفرص وموئل للنجاحات، بفضل سلسلة من السياسات الاقتصادية الجريئة والمدروسة، قاد ركبها رجل برع في اقتحام الميادين واقتناص النصر وتحقيق الأمنيات الكبار·
والقلب منفطر لفراق مكتوم، يحق لنا أن نتذكر بعضاً من إنجازاته الوطنية، التي أصبحت معالم على طريق تحقيق رفاهية شعب الإمارات، فمنذ أن تسلم المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم المسؤولية الأولى لأربع وزارات اتحادية كانت الأيام شاهدة على الدور الأساسي الكبير الذي لعبه سموه في تحقيق الإنجازات العظيمة لشعب دولة الإمارات العربية المتحدة عبر عمر المسيرة الاتحادية·
وفيما تحاول أن تستدعيه الذاكرة رغم هول المصاب تصبح الأرقام دليلاً لا يقبل التأويل، وهذا غيض من فيض مما تحقق لأبناء الإمارات في ظل الحكومات التي قادها مكتوم مفعماً بالحب مليئا بالأمل؛ فقد كان حريصاً على التعليم وأولاه عناية خاصة مسخراً أكثر من250 مليار درهم من الموازنات الاتحادية لإحداث نهضة شاملة على المستوى العمراني وفيما يتعلق بصناعة إنسان الغد وتربية النشء في دولة الإمارات العربية المتحدة·
فقد بنيت وبتوجيهاته أكثر من 600 مدرسة غدت منارات علم لخلق الأجيال المتعلمة وتحصين إنسان الإمارات بالعلم وتمكينه من سلاح فعال يواجه به المستقبل·
وفي ظل حكومات قادها مكتوم انتشرت المستشفيات والمد