تحت مبررات حرية التعبير، تُنتهك المعايير الأخلاقية للعمل الإعلامي، وتُداس تحت الأقدام مواثيق شرفه، تحت شعارات زائفة من حرية التعبير وحرية طرح الرأي والرأي المضاد·
لا يمكن أن ننكر أن قيم الشرف الإعلامي ومصداقية الأطروحات في النهج الإعلامي المتداول، هي نتاج لفكرة العقد الاجتماعي، الذي عرفه ومارسه الغرب باقتدار، ولكن هذا الاعتراف بثوابت ومهنية الممارسة الإعلامية لا يمنعنا من توجيه سهام النقد عندما يتم التطاول على شخصية في مقام الرسول الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، الشخصية التي قدمت للبشرية قاطبة أكمل رسالة وأشمل توجيه، وأصبحت نموذجاً يُقتدى به لأكثر من مليار مسلم وملايين من المسيحيين وغيرهم· وأصبح التطاول عليه نوعاً من الهذيان الذي يغلف القلوب والنفوس الضعيفة التي تستهدف الإسلام كمنهج ورسالة·
الرد الديني وتفسيراته وتبريراته مهمة متروكة لحملة مشاعل التنوير من علمائنا الأجلاء، ولكن تبقى الرسالة الإعلامية التي يمكن تفنيدها وتحليلها، ومن ثم إعادة صياغتها وإرسالها للغرب، بعد أن وضعنا كمسلمين وكعرب في موقف سياسي واقتصادي لا نحسد عليه، وبعد أن أصبحنا صوراً نكرة في كل مطارات الدنيا ومجسدين للإرهاب، حاملين لأوزار جرائم كونية، قامت بها مجموعات موتورة لا تمثل الإسلام، ولا تمثل النهج القويم لما جاء به النبي الكريم هادياً للبشرية ومخرجاً لها من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام·
رسالة محمد عليه الصلاة والسلام كانت للبشرية والدعوة لم تحمل في طياتها أية إشارات للعنف أو القتل أو إزهاق الأرواح أو إقصاء الآخر على خلفية الاختلاف، وكانت دعوته مبنية على أسس الحوار والجدل بالتي هي أحسن، تاركاً أمر ما في القلوب والضمائر لعلاقة قائمة بين العبد وربه· لم يفرض محمد الإسلام بحد السيف، كما يزعم الغرب، وكما يروج له بعض المسلمين الذين اختلط عليهم الأمر، بعد ذلك التحول الكبير في فكرة إدارة الدولة، عندما اتجه الخلفاء الأمويون بعد دولة الخلفاء الراشدين إلى تأسيس ما يعرف بالدولة الدينية على أنقاض الدولة الإسلامية، ففي الدولة الدينية منح الحاكم سلطات بلا حدود·
ازدهر العنف عندما تحولت بعض الأنظمة والجماعات إلى حاضنة حقيقية للإرهاب الذي ترعرع في جنباتها وأصبح له مريدون ومبشرون لتتواصل فكرة الإرهاب، حيث نشطت وبدعم كبير من الدولة الدينية وبعض المذاهب المتطرفة، فكرة القتل العبثي تحت تبريرات نفعية واهية، وطرحت شعارات ''دولة الخلافة'' و''الإسلام هو الحل'' لتكون صدمة الإنسان المسلم كبيرة، وهو يرى تساقط كل الشعارات، وتحوله هو إلى نكرة منبوذة على المستوى الدولي·
أعتقد أنه لا جديد فيما سردت، ولكن الجديد على المستوى الإعلامي يرتبط بكيفية تفعيل الخطاب الإعلامي الإسلامي والعربي، ليكون معبراً عن حالة الاستياء والغضب والاستنكار التي اجتاحت كيان المسلم في ردة فعل طبيعية على هذا الاعتداء الآثم على قدسية هذا الرمز الديني· ما قامت به الصحيفة وردود فعل الحكومة الدنماركية فيه الكثير من التجاهل لمشاعر أكثر من مليار مسلم، وفيه استخفاف مهين بقوة هذا المليار وقدراته الاقتصادية· وهنا تتجلى الإمكانيات الحقيقية للخطاب الإعلامي الإسلامي في الانتقال من خانة ردود الأفعال العاطفية التي تدعو لمقاطعة البضائع الدنماركية وعدم تحويل الفكرة إلى مجرد سحابة صيف عابرة، يمكن أن تنتهي بمجرد تقديم الحكومة الدنماركية الاعتذار للمسلمين، تحت سطوة وهيمنة الشركات الدنماركية·
إن خطاباً إعلامياً جديداً يجب أن يتصدى لكل حملات التشويه المتعمدة التي يتعرض لها العرب والمسلمون وفق نهج مخطط ومدروس، خطاب يكون قادراً على أن يشرح الفكرة ويدحض الافتراء· وأجدني مندفعاً لفكرة إطلاق قناة فضائية عربية بخطاب إعلامي جديد، خطاب يتوجه إلى الغرب، يحمل في طياته رسالة إعلامية، تجسر العلاقة بين الإنسان الغربي، الذي أوحى له بفعل فاعل أن مفهوم مسلم يرتبط بمفاهيم الإرهاب والوحشية والهمجية وتعدد الزوجات، في إطار محاولات جادة لنسف وتشويه الدور الحضاري للعطاء الإسلامي في مجالات العلوم والاختراعات والحضارة الإنسانية·
إن غابة الفضائيات الهابطة، وهي تحقق أرباحاً مليونية مبالغا فيها، مطالبة اليوم وانطلاقا من واجب الدفاع عن الرسول الكريم والمنجز الحضاري الإسلامي، أقول إنها مطالبة بدعم فكرة إطلاق فضائية جديدة تتبنى خطاباً عقلانياً، بعيدا عن فكر الجماعات المتطرفة، وتقدم الإسلام بصورته النقية وإسهاماته الحضارية بعيداً عن فكرة الإقصاء·
لا يتعلق الأمر بالامتناع عن تناول الأجبان والزبدة الدنماركية، ولكن المهم هو تبني ثقافة مقاطعة جديدة وفق منهج عقلاني، ومنه ننطلق لإمكانية استخدام هذا السلاح رغم أنه الأوهى في تبصير الآخرين بأننا قادرون على اتخاذ القرار عندما تُمس ثوابتنا·
وما أخشاه فعلاً أن تكون هذه فورة عاطفية ستخمد جذوتها بعد حين، وخاصة حينما يقوم مستوردون مسلمون بتغيير مغلفات الزبدة والجبنة والدجاج ليكون ذبحه إسلامياً ومصنعاً في