استقدم أحدهم "معالجاً بالقرآن" للنظر في أحوال أسرته، فتزاحم الناس عليه ما اضطره إلى تأجيل "علاج" حالات كثيرة بسبب انتهاء فترة تأشيرته متعهداً بالقدوم بتأشيرة "عمل" هذه المرة مبدياً استغرابه من الأعداد الكبيرة للـ"ممسوسين" في الإمارات. في السياق نفسه، كتبت إحدى الصحف عن مواطن، يتردد على "المعالجين"، ذبح ابنه وحاول قتل والده بالمطرقة ظناً منه أنه "الأعور الدجّال". ومواطنة، اشتهرت بـ"العلاج بالقرآن"، قتلت وأسرتها، الابن الأصغر قبل أن يصبح "المسيح الدجّال". وآخر الأنباء إلقاء القبض على "معالج" خليجي ذاع صيته أو بالأحرى نُشر غسيله في برنامج "الرابعة والناس". فضلاً عن عثور بلدية عجمان على تمائم مخبأة داخل مقبرة مهجورة.
وهذا نتيجة خلط الأمور، فالإيمان بوجود الجن شيء، وتصديق قدرتهم على دخول الجسم وتوظيفه شيء آخر. ولا أحد ينكر أعراض الـ"ممسوسين"، لكن هذا لا يعني التسليم بتفسير "المعالجين"، وما الخلط إلا ليكسب الطرفان: المشعوذون الذين يوهمون الناس أنه بمقدورهم توظيف الجن بنقلهم من جسد إلى آخر، و"المعالجون" الذين يتوهمون أنهم يطردون الجن. هذا يوظّفه والثاني يفصله عن العمل. وهناك حالات يقنع فيها "المعالج" أهل المريض أنه مصروع من الجني لأنه داس ابناً له أو سكب الماء الحار عليه. وبالبداهة أنه فعل هذا في الهواء الطلق ودون قصد منه.
في تفسير هذه الحالات، هناك اتجاهان لا يلتقيان إلا في الأعراض: اتجاه العلميين ويضم الأطباء وخاصة النفسيين، ويساعدهم بعض أساتذة الشريعة. واتجاه الجنّيين ويحركه المشعوذون و"المعالجون"، ويظاهرهم فيه بعض مشايخ الدين. فأنت ترى مصروعاً يتخبط بالأرض، أو شخصاً يفقد السيطرة على ذراعيه، أو ذكراً ينطق بصوت الأنثى، فالجنّيون يقولون "ممسوس". أما العلميون فيفسرونها بأنها أعراض اضطرابات نفسية أو عقلية أو عصبية، بالإضافة إلى إتقان "المعالج" فنّ الإيحاء وقابلية الحالة للإيحاء بسبب عدم النضح الانفعالي، فضلاً عن قدرة الحالة على الانفصال عن الشخصية من دون وعي هروباً من الواقع.
فيقول الجنّيون، فما بال "الممسوس" يهدأ إذا قرأنا عليه القرآن. يرد العلميون، إن المريض يحتاج إلى السكينة، والقرآن الكريم يبعث الطمأنينة، بل إن نظراءكم من غير المسلمين، يتلون على حالاتهم الترانيم والتراتيل، وأن ما تفعلونه مجرد مهدىء بينما المرض يتفاقم. وحين يبهت الجنّيون، يتهمون طب العلميين بأنه غربي مادي. فيرد العلميون بأن ابن سينا حلّل السلوك قبل ألف سنة وتكلّم في الاستجابة الشرطية قبل بافلوف بعشرة قرون، وأن أول مستشفى للأمراض العقلية في العالم كان في العهد الأموي.
ويضيف العلميّون إن من أسباب تهافت الناس على هؤلاء هو أنهم يوهمون مَنْ عجز عن حلّ مشكلته بأن المشعوذين وراءها، ومن تأخر شفاء مرضه بأنه ممسوس. فحين تبدأ المباراة، يرمي كل خاسرٍ مالياً أو خائبٍ حياتياً أو متورطٍ اجتماعياً أو مهملٍ صحياً كرته في ملعب الجن، فكم هو مريح أن يكون المرء غير مسؤولٍ عن أخطائه؟ ويقولون، إنه حتى في الحالات التي لا يطلب فيها "المعالجون" مالاً، فهذا اطمئنان منهم إلى كرم الناس بعد أن شاع أن مِنْ علامات الدجّال طلب المال، أما المقتدرون منهم، فهم طلاب شهرة وسمعة ومنزلة، وحتى الذين صدقت نواياهم، فلعلّهم "يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً". وللحديث بقية شرعية.