صباح معطر بالوجد مع إضمامة مشموم ورشة ماء ورد من مرش، ورائحة زكية لاحتراق خشب العود في المبخر الصيني على صباح يخفق فيه القلب ويهتف كل عام وأنتم بخير وأنا لا أملك إلا كلماتي أبعثها لكم لتقول عيدكم مبارك ولتكن أيامكم مليئة بالحب والعطاء·
بعيداً عن أحاديث السياسة وهمومها والواقع العربي بسوداويته والعراق بجرحه النازف اخترت لكم هذا الصباح مجموعة وجدانيات علها تنبئ عما يجيش في الخاطر وترحل بكم بعيداً عن عوالم الإحساس بالضيق والحزن·
وجدانية أولى: لا أعرف كم مصرياً أو عربياً أو أفريقياً سيصاب بسرطان الجلد أو القولون أو الرئة لأنه تناول مرغماً خياراً مصرياً أو تذوق حلاوة وطراوة المنجة أو الجوافة المصرية، لا أعرف كم فلاحاً أسمر البشرة منغرساً في الطين مغسولاً بالنيل سيتحول إلى شبح أو هيكل عظمي بعد أن يعالج بالكيميائي لأنه متسرطن بسبب جشع وزير أو مسؤول استورد أسمدة ومبيدات حشرية وأدوية زراعية مسببة للسرطان· القضية الآن في يد القضاء المصري وهو قضاء لا يمكن على مستوى الثقة به أن يخذلنا ولا يمكن أن يحول مأساة عشرات الآلاف من المتسرطنين إلى كوميديا فلاحية ونكتة على المقاهي·
وجدانية ثانية: جاء صوتها مختنقاً عبر الأسلاك· صمت لحظة لأتبين الصوت، وسألت من؟ حاولت أن تذكرني ولكن تزاحم الهموم وسنوات العمر كانت قد أثقلت الذاكرة بما لا يطاق· واختصاراً للموقف طلبت منها أن تذكرني بالاسم· قالت: لا يهم من أكون ولكن الفكرة تبقى أن يصل الصوت أو أن تصل الآهة إلى من يقدر على فهم الإشكال وحل معادلة الطلسم الموجعة·
لقد كنت لي زميل دراسة في جامعة بغداد، ترافقنا في أجمل سنوات العمر وكانت أحلامنا العودة إلى الوطن لنشمر عن السواعد ونبني الوطن· اخترت أن الإعلام واخترت أنا موقعاً آخر كنت أعتقد أنني أحارب فيه على جبهة أهم، جبهة صناعة الإنسان تعليمه وتربيته· أتذكر كم كنا نحلم بتعليم الصغار الرسم والموسيقى والأحرف الأبجدية وحب الوطن كما يحبه زايد؟ أتذكر كم كنا نخطط لأن يكون لدينا مسرح ومرسم نمزج فيه ألوان الطيف بتراب الأرض بملح ماء البحر· أخي لقد قضيت ربع قرن من الزمان مدرسة، مرة للموسيقى ومرة للفنون واللغة العربية التي أعشقها كما تعشق وكثيراً ما درست للطالبات مواد التربية الوطنية· لقد تعلمنا في بغداد معاني كثيرة من أهمها عشق هذا التراب، كنت قانعة بما وهبني إياه الخالق ولم أحفل بأن العمر يجري مسرعاً· مررت بتجربة زواج فاشلة، كنت أنا السبب في فشلها، بسبب اهتماماتي الكثيرة بتطوير الذات والعمل خارج ساعات الدوام الرسمية، كنت أعمل فوق طاقتي لساعات متأخرة أنجز من أجل المدرسة وطلابها· خسرت زوجي الذي أحب لأنني تزوجت المهنة التي أعشق، مرت السنون سريعة، رحل الزوج إلى عالم خاص به مفضلاً الزواج من فلبينية ترعاه بحرص، وكبر ابني الوحيد وتزوج وغادر منزل العائلة· تركني الجميع بين جدران صماء وكراسات لم يتسن لي تصحيحها ورسومات لم تنجز وألحان انقطع بها السبيل بعد تقطع أوتار العود المكسور الذي أملك· جفت الفرشاة وتحجر اللوان ووهن العظم واشتعل الرأس شيبا، هذه سنة الحياة صديق الحرف· ولكن المأساة أنني عندما قدمت خطاب الاستقالة أو التقاعد ووفق عليه بسرعة البرق·
تسلمت خطاب قبول الإحالة على التقاعد مذيلاً بمعلومة تقول إن راتبي التقاعدي سيكون 6500 درهم فقط لا غير· حاولت أن أفيق من الصدمة باستخدام آلة حاسبة صغيرة كنت قد حصلت عليها هدية أو قل ثمناً لجهد في تلحين أوبريت دفعت لمغنيته الشابة حينها 250 ألف درهم· عموماً عجزت الحاسبة الصغيرة قبل نفاد قوة شحن بطاريتها من قسمة المبلغ على متطلبات العيش الكريم بين إيجار الشقة وفواتير الماء والكهرباء والإعاشة وثمن الدواء لمرض ألمّ بي من أعوام· أخي أدركت أنني قد أوقعت نفسي في ورطة كبيرة، ولكن الأمل كان كبيراً في أن يقدرني المجتمع بعد أن ربيت له أجيالاً من الأبناء يتسنمون الآن مراكز حساسة ويتقاضون مرتبات خيالية، إذ يعادل مرتب شهر واحد لأحدهم ما أتقاضاه في خمسة أعوام كاملة· أخي أنا لا أريد مليون درهم، ولكنني أبحث عن مبلغ يحفظ لي كرامتي كمربية وأم ومواطنة وأرملة· هنا توقفت محدثتي عن شرح مفردات قتلها بعد أن هاجمت الغصة روحها واختنق صوتها وكدت أرى دمعتها فوق الخد تجرح·
وجدانية ثالثة: افترشت أم سعيد الأرض وبدأت في رص العلب المتناثرة بتنسيق تعتبره جذاباً· علبة فيها مشط أحمر وأخضر وآخر خشبي· علبة أخرى فيها لحاء خشب جاف تستخدمه النسوة بديلاً عن أصابع الروج ويسمى الديرم ولا أعرف مصدر التسمية، في الركن الآخر رصت مجموعة من مستلزمات الخياطة إلى جانب قفة صغيرة بها بعض الفول السوداني المحمص والحمص المحمص· كان مشهد البسطة مزركشاً، خليطاً من ألوان لوحدة أبدعتها فطرة أم سعيد للترويج لبضاعتها في هذا اليوم، وهو يوم تجاري مهم إذ تنقل أم سعيد نشاطها إلى مدخل وزارة العمل نهاية كل شهر للإيقاع بـ(عجائز وشواب الشؤون)· إلى جانب أم سعيد مئات البسطات واختلاط الأصوات وكرنفال الصر