إذا كان البعض في داخل السودان وخارجه قد ظنوا أن نظام الحكم في السودان الذي تقوده جماعة "الإنقاذ"، قد بدأ فعلاً يمارس قدراً واضحاً من إطلاق الحريات، فإن ذلك الظن قد سقط وخاب نهار الأحد الماضي عندما تصدت قوات الأمن فمنعت بالقوة موكباً سلمياً قام به بضعة آلاف من المواطنين والمواطنات نيابة عن عشرات الآلاف من المدنيين والعسكريين الذين طردتهم من الخدمة حكومة "الإنقاذ" منذ توليها للسلطة بعد 18 عاماً، ولم تكتف السلطات بمنع الموكب السلمي من التحرك بل اعتقلت عشرات من قادة الموكب بينهم وزراء سابقون ووكلاء وزارات وغيرهم. إن غرابة هذا الموقف وشذوذه أنه يتم بعد أن أعلن السيد رئيس الجمهورية أكثر من مرة أنه يعترف بأن ظلماً قد وقع على هذه الجماعة وأنه يسعى لإزالة هذا الظلم. ولكن رغم هذا الاعتراف وهذا الوعد، فإنه لم يتخذ قراراً برد تلك المظالم رغم أن هذه الجماعة بدأت تطالب بحقها منذ أن تم التوقيع على اتفاقية "نيفاشا"، ثم بعد إقرار دستور السودان الجديد الذي يطلب حريات التعبير وفق المواثيق والأعراف الدولية. إن أجهزة القمع السودانية تبرر مسلكها ذلك بأنها كانت ترى أن الموكب المشار إليه يمكن أن يزعج الأمن إلى آخر تلك المبررات التي لا تملك الأجهزة الأمنية دليلاً على صحتها؛ فأغلبية الشعب السوداني تتعاطف مع هذه الألوف من المواطنين الذين حرموا من حقوقهم وحرمت أسرهم التي يعد أفرادها بمئات الألوف من حقهم الطبيعي في العمل والعيش الكريم. ثم ألا يكفي دليلاً على عدم صحة ما تدعيه أجهزة الأمن من أن مواكب مماثلة قد أجريت في ذات اليوم في أكثر من ولاية واحدة من ولايات السودان وسارت كلها بسلام ونظام إلى أن سلم قادتها مذكرات للولاة تحوي مطالبهم بالعودة للعمل لمن ما زالوا قادرين أو التعويض المادي والأدبي لمن وقع عليهم ذلك الظلم الواضح، ليس لسبب إلا لأنهم لم يكونوا من أعضاء الجبهة الإسلامية القومية "الإنقاذ" أو المتعاطفين معها، رغم أنهم كانوا يؤدون ما عليهم من واجبات وظيفية على خير ما يرام. إن ما جرى نهار الأحد 15 أبريل الجاري في الخرطوم، سيكون صفحة سوداء أخرى تضاف لسجل حجْر الحريات وفي منع حتى الذين اعترف رئيس الجمهورية بالظلم الذي وقع عليهم من التعبير السلمي عن قضيتهم. بهذا تكون كل الأبواب قد أغلقت في وجه هذه الجماعة وهو وضع يمكن أن يقود إلى نتائج غير محمودة كأن يلجأ هؤلاء للعمل السري وما أدراك ما العمل السري ونوعه وأسلحته ووسائله المشروعة وغير المشروعة. إننا في السودان وبمسؤولية الذين يتولون الحكم، لا نعي الدروس ولا نأخذ العبرة والعظة بما حدث ولا زال يحدث في كثير من أنحاء الوطن بسبب القمع والبطش وحرمان الناس حتى من مجرد إبداء الرأي. ونحن بهذا الذي حدث يوم الأحد الماضي في الخرطوم، نكون قد زرعنا بذرة أخرى لن تنتج إلا مزيداً من الأزمات والمشاكل.