اليوم الأربعاء، يتوقع أن تعلن المفوضية الأوروبية خطة تأخرت كثيراً عن موعدها وأثارت الكثير من الجدل، سواء لكونها تنوي إرغام شركات الطاقة الكهربائية والغاز على فصل تسعير عمليات إمداداتها وتوزيعها، أم لسعيها إلى تشجيع تحرير سوق الطاقة وزيادة التنافس التجاري بين المنتجين. على أن الخلاف الرئيسي يدور حول خطوط الطاقة وخطوط الأنابيب. فمن رأي النقاد أنه طالما ظل في مقدور كبرى الشركات العاملة في مجال إمدادات الطاقة، فرض سيطرتها على شبكات الإمداد وخطوط الأنابيب التي تتدفق عبرها الطاقة، فإن ذلك يجعل من العسير جداً على المستثمرين الجدد الدخول إلى حلبة المنافسة معها. أما النتيجة الطبيعية المتوقعة لهذا الإجراء، فهي ضعف التنافس الاستثماري مع وجود احتمال لخطر احتكار الشركات العملاقة هذه لقطاع الطاقة. وحتى هذه اللحظة فإن الأطراف الرئيسية في هذا الحوار، هي صناع القرار وعدد محدود من شركات الطاقة الأوروبية. أما الجمهور فلم يبد اهتماماً يذكر، ربما لعدم علمه بمدى علاقة هذه القضية بحياته اليومية. ولكن علينا أن نعيد التفكير مجدداً في الأمر، خاصة في ما يتصل بفصل أسعار شبكة الكهرباء العامة، وكذلك في النتائج التي سيفضي إليها الحوار الجاري حول سياسات الطاقة. وهي نتائج ربما تحدد ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيصبح قوة اقتصادية عظمى خلال النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، أم سينحدر إلى المرتبة الثانية من تصنيف القوى العالمية. والواقع أن الاتحاد الأوروبي بات على شفا الانتقال إلى مرحلة الثورة الصناعية الثالثة، وأن فصل تسعيرة شبكة الكهرباء العامة، يعد أمراً بالغ الأهمية لإحداث ذلك الانتقال. وهذا ما يلزم توضيحه هنا. فما حدثت كبرى التغييرات الاقتصادية وأكثرها تأثيراً في التاريخ العالمي، إلا عندما تداخلت نظم الطاقة ونظم الاتصالات الجديدتين. فمثلاً تعود نشأة الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر إلى ذلك التداخل بين تكنولوجيا طاقة البخار والفحم الحجري، وتكنولوجيا الطباعة. وبالمثل، حدث تداخل شبيه منذ أواخر القرن التاسع عشر بين الأشكال الأولى للتواصل الإلكتروني (الهاتف والتلغراف والراديو والتلفزيون وماكينات الطباعة الكهربائية...) مع بدء استخدام طاقة النفط وماكينات الاحتراق الداخلي. ثم شهدت تسعينيات القرن الماضي ثورة كبرى في مجال الاتصالات، مع ظهور الجيل الثاني من أشكال الاتصال الكهربائي والإلكتروني: الكمبيوتر الشخصي، الإنترنت، وتكنولوجيا الاتصال اللاسلكي. ورغم أن ثورة الاتصالات والبرامج التشغيلية، قد رفعت معدل الإنتاج في جميع المجالات، فلا يزال علينا اكتشاف طاقتها القصوى الكامنة، ولن يتم ذلك دون تداخل الثورات والتقنيات الجديدة مع مصادر الطاقة البديلة المتجددة، والمختزنة جزئياً في شكل طاقة الهيدروجين، وذلك لإنتاج النظم الأولى لشكلها القابل للتوزيع والتسويق التجاريين. على أنه يتوقع استخدام ذات المبادئ التصميمية والتقنيات الحديثة الذكية التي أفضت إلى ظهور شبكة الإنترنت وكذلك شبكة الاتصالات الدولية الواسعة، في إعادة هيكلة شبكات الطاقة بما يمكّن البشرية من إنتاج الطاقة المتجددة وتبادل توزيعها واستهلاكها، بذات الطريقة التي يتم بها تبادل المعلومات، بما ينتج عنه في نهاية الأمر بروز شكل جديد من أشكال نظم الطاقة اللامركزية. وهذا ما يطلق عليه اليوم "شبكات الطاقة البينية"، والتي يجري اختبار أشكالها الجنينية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. وتتألف الشبكة الكهربائية البينية، من ثلاثة أجزاء رئيسية: الشبكات الصغرى (وتمكن مالكي المنازل من الاستثمار الصغير أو المتوسط في مجال الطاقة). الشبكات الكبرى (وهي ذات طبيعة اقتصادية استثمارية عملاقة، وتعنى بإنتاج أشكال الطاقة المتجددة محلياً). أما تكنولوجيا قياسات الطاقة الذكية، فتمكن صغار المستثمرين في مجال الطاقة من تحسين كفاءتهم في استهلاك الطاقة، ومن ثم إعادة بيع فائضهم ومدخراتهم منها إلى الشبكة الكهربائية العامة، ما يجعل تدفق الطاقة ظاهرة ثنائية الاتجاه؛ من الشبكة العامة وإليها. وتتضمن هذه التكنولوجيا الذكية، زراعة رقاقة إلكترونية صغيرة في كل جهاز كهربائي بحيث يصبح ممكناً قياس الطاقة التي تم استهلاكها في أي زمان أو مكان. ومن الطفرات المتوقعة في هذا المجال مستقبلاً، أن يزداد الربط بين شبكات الطاقة الذكية والتغيرات التي تطرأ على الطقس، بحيث يتم تسجيل تغيرات هبوب الرياح وقوة الخلايا الشمسية وتغيرات درجات الحرارة. وهذا ما يمكن شبكة الطاقة العامة من تعديل تدفق الطاقة على نحو دوري مستمر، وفقاً لتغيرات الطقس وتغير الطلب على استهلاك الطاقة. ولما كانت أسعار الطاقة الفعلية تتفاوت بين ساعة وأخرى خلال اليوم، فمن شأن الحصول الفوري على معلومات استهلاك الطاقة، أن يفتح الباب أمام "التسعير الدينامي" أو المتغير، لتمكين المستهلكين من رفع أو خفض استهلاكهم لها آلياً، وفقاً لسعرها في لحظة معينة حسب معدل تدفقها من الشبكة العامة. وعليه فمزايا الشبكة البينية الذكية لا تقتصر على تمكين مستهلكي الطاقة من تحديد خياراتهم فحسب، وإنما يتوقع أيضاً أن تسهم في بروز كفاءات جديدة في توزيع الطاقة. هذا ويتوقع لإعادة هيكلة الشبكة الكهربائية الخاصة بالاتحاد الأوروبي كله خلال العقود الثلاثة المقبلة، أن تكلف أكثر من 750 مليار يورو، وأن تنشئ معها الملايين من الوظائف الجديدة التي يتطلب الكثير منها إعادة تأهيل العاملين في مجالي هندسة الطاقة وتكنولوجيا المعلومات. وكل هذا يعيدنا إلى النقطة الأولى التي بدأنا منها هذا المقال، أي القرار المرتقب اتخاذه من قبل الاتحاد الأوروبي حول فصل أسعار الشبكة العامة عن نظام تسعير شركات الطاقة. وهنا تلزم المقارنة بين "شبكة الطاقة البينية" المتداخلة وشبكة الإنترنت. فلا أحد يملك الإنترنت كما نعلم. لكن مع ذلك تحرص الحكومات على وضع القواعد واللوائح الكفيلة بضمان حرية وإتاحة استخدام الشبكة للجميع دون استثناء. وبالمقارنة فمن المفترض أن تتاح أيضاً شبكة الطاقة البينية لجميع المستهلكين كما هو الحال في شبكة الإنترنت. ولو كانت شبكة الإنترنت مملوكة أو محتكرة بيد شركات خاصة، لكانت قد تباطأت ثورة الاتصال الهائلة. وهذا ما يفسر، في مجال الطاقة، ذلك الجدل الدائر حالياً حول ملكية قنوات توزيعها وتدفقها.