انخرط الشاعر الفرنسي الشهير "أراجون"، مثله مثل الكثيرين غيره من مثقفي أوروبا، في الحركة الشيوعية عندما كان الفكر الاشتراكي في بدايات القرن الماضي يمثٍّل أملاً للإنسانية في الخروج من جحيم الصِّراعات والحروب الدولية والطبقية ومن انتكاسات النظام الرأسمالي الاقتصادي الجائر الذي كان يدخل العالم بين الحين والآخر في فترات ركود اقتصادي وهَّزات مالية عنيفة. كان الأمل كبيراً في تحقيق آمال البشر في العدالة والمساواة، وانبثاق فجر الفقراء والمهمشين والمحرومين. لكن "أراجون" اكتشف، مثله مثل آخرين كثيرين، بُعد المسافة بين الأقوال والشعارات وبين تفعيلها في الواقع، فعبَّر عن مأساته الشخصية بأبيات مفجعة: "ممَّزق قلبي، ممزَّقة أحلامي/ لكن من رمادها سيطلُّّّّّّّّّّّّّّّّّّ فجر جديد/ الذي لن يرى قط ما شاهدته بنفسي". "أراجون" هدَّأ من لوعته وخفَّف من يأسه وغسل جحيمه الداخلي بأبيات الألم الممزوج بالأمل. وهكذا استكان داخله وانتقل إلى عوالم أخرى شغلته بقية حياته المديدة. لكن ماذا عنَّا، نحن جيل الأحلام العربية الكبرى، أحلام الوحدة القومية، أحلام التصدي للمشروع الصهيوني، أحلام الحرية للوطن وللمواطنين، أحلام تصفية الاستعمار وقوى الاستبداد، أحلام العدالة الاجتماعية وانتصار الاشتراكية، أحلام الديمقراطية وصعود الفقراء والمهمُّشين والمظلومين..؟ ماذا عنّا ونحن نرى النكسات والهزائم، ونشاهد الموت ينتزع كل الشعارات والأحلام والأماني، ولا نرى خيوط أشعة ذلك الفجر الذي تراءى لنا برهة من الزمن، ثم فجأة ما عدنا نراه، بل خيِم ظلام دامس على أرضنا وسمائنا وأرواحنا؟! قد يستطيع البعض منا أن يفعلوا ما فعله الشاعر الفرنسي وغيره؛ فينفِّسوا عن تمزّقات قلوبهم وأحلامهم بالشعر والغناء والرَّسم والنَّحت وكل التعبيرات الجميلة الأخرى، ثم يرتاح المحارب اليائس بالجلوس على قارعة الدرب الطويل. لكنه سيفجع ويتمزق، أكثر مما سيفجع أراجون ويتمزق لو قدِّر له أن يعيش ليرى عالمنا الراهن المعولم المريض الأحمق، حيث انقلب حلم الفجر "الأراجوني" إلى ليل حالك حزين. كلا، إن منطلق الخروج من الأحلام الممزّقة لا يكون بحرقها ليخرج من رمادها فجر أحلام جديدة. فأحلام الإنسان الكبرى ليست أضغاث أحلام تستبدل كما تستبدل الثياب العتيقة البالية. إن المنطلق ليس تبديل الأحلام بل إنعاش الإرادة، إرادة تحقيق الأحلام. موضوع الإرادة ليس موضوعاً فلسفياً أكاديمياً. إنه جزء من تركيبة روح الإنسان. إنه قديم قدم الإنسان نفسه، فمنذ أكثر من خمسة وعشرين قرناً أكُّد حكيم الصين "كونفوشيوس" في تعليق سياسي ملفت أنك "تستطيع خلع القائد من جيشه، لكنك لا تستطيع خلع الإرادة من الإنسان". ووصل الموضوع إلى قمته عند فيلسوف ألمانيا "فريدريك نيتشه" وهو يتساءل: "هل تريد اسماً لهذا العالم؟ هل تريد حلاً لكل معضلاته؟ إن هذا العالم هو إرادة القوة ولا شيء غير ذلك". وعندما ذمَّ الإمام علي بن أبي طالب المتخاذلين بوصفهم: "كلامكم يوهي الصمَّ الصَّلاب (يضعف الحجر الصّلب) وفعلكم يُطمع فيكم الأعداء"، ثم صرخ في وجوههم: "أقولاً بغير عمل، وغفلة من غير ورع، وطمعاً في غير حق؟"، فإن الإمام رضي الله عنه كان يصف بعبقريته الإرادة الرخوة في نفوس بعض أتباعه. من رماد الأحلام العربية الممزقة يجب أن تخرج كل أنواع الإرادات: إرادات الفكر والثقافة والسياسة والضمير والأخلاق، وليست إرادة القوة فقط. والتعويل على أنها جزء طبيعي في الإنسان سيقود إلى أخطاء سياسية فادحة. إنها تحتاج إلى نحت يومي وإلى بناء مستمر. هذا هو قدر ومهمّة الذين تتمزق قلوبهم في أرض العرب، من مفكرين ومثقفين ومناضلين، وليس البقاء على قارعة الطريق انتظاراً لظهور فجر جديد. د. علي محمد فخرو