ارتكب السيناتور باراك أوباما لتوه أكبر أخطاء حملته الانتخابية. وفي تقديري أن هذا الخطأ سيكلفه كرسي الرئاسة الذي بدا لفترة وكأنه يهديه نفسه. بل وقد يتم تدريس هذا الخطأ في العلوم السياسية والاستراتيجية بين أبرز أخطاء الاختيار الاستراتيجي. الخطأ هو اختيار السيناتور جوزيف بايدن على تذكرته الانتخابية نائباً للرئيس. وبطبيعة الحال فالخطأ أكبر بالنسبة لنا نحن العرب. إذ كان أول شيء أطلقه بايدن بعد الإعلان عن اختياره لخوض الانتخابات كنائب لأوباما هو أن يهتف بحماس تافه وطفولي قائلاً "أنا صهيوني". هتاف "أنا صهيوني" قد يكلفه شيئاً ما في الانتخابات الأميركية أو قد لا يكلفه. نحن لا نعرف بالضبط. فحتى أكثر الناس ولاءً للصهيونية وإسرائيل في السياسة الأميركية لا يفعلونها بهذا القدر من الفجاجة والشطط، لأن الأصل في الانتخابات الأميركية أن يخاطب المرشحون ما يسمى "بالوطنية الأميركية" أو يؤكدوا ولاءهم المنفرد للولايات المتحدة لاسيما أن هذا البلد كان يواجه دائماً مشكلة الطبيعة الخاصة لمجتمع المهاجرين وما تنتجه من ظاهرة الولاء المزدوج لدى كثير من رجال السياسة الذين لم ينسوا أصولهم القومية. وظني أن الهتاف "أنا صهيوني" يستفز مشاعر الأميركيين من الطبقة الوسطى التي تمثل حاضنة "الوطنية الأميركية". وقد برزت مؤخراً أصوات كثيرة تحتج صراحة وأصوات أكثر بكثير تحتج بصمت على تبعية أميركا لإسرائيل وحجم المعونات الهائل الذي تحصل عليه إسرائيل من أميركا دون أي استحقاق أو سبب وجيه غير التبعية السياسية وقوة اللوبي الصهيوني. لكن حتى لو أن ثمة تكلفة لهذا الهتاف التافه، فلن تكون كبيرة بالمقاييس المعتادة في الانتخابات الأميركية. لذلك فأسباب خطأ أوباما في اختيار بايدن تتعلق بأميركا وليس بالعرب بالطبع. وهي أخطاء شخصية وسياسية. أسباب الخطأ المتعلقة بشخص بايدن كثيرة وواضحة للعيان. فالسيناتور بايدن له لسان طويل لا يسكت ويخطئ كثيراً ويكذب أكثر ويغش بدون حساب. وهو لا يعرف أن السكوت أحياناً من ذهب إن كان الكلام من فضة. وقليلاً ما يصنع بايدن كلاماً من فضة أو حتى من نحاس فأكثر كلامه من قصدير. فهو سياسي محترف وله شعبية في ولاية صغيرة للغاية هي ديلاوير يمثلها منذ عام 1972، ولكنه لم يصنع لنفسه قاعدة "قومية" على مستوى المجتمع الأميركي. ولهذا السبب اضطر الرجل للانسحاب المبكر من الانتخابات الرئاسية بعدما رشح نفسه فيها مرتين، آخرها كانت هذا العام. ولم يحصل في المرتين على ثقة الشعب الأميركي ولا حتى على موقع متقدم في الانتخابات الأولية في أية ولاية، حتى أنه انتهى إلى المرتبة الخامسة في الانتخابات الأولية في إيوا. وهو معروف بافتقاره للانسجام والثبات في المواقف. أما من الناحية الأيديولوجية، فالرجل ينتمي ليمين الحزب الديموقراطي. حاول أوباما أن يسوقه باعتباره "رجلاً غير واشنطن دون أن تغيره"، لكنه بعيد للغاية عن أن يجسد الدعوة التي أطلقها أوباما وأسس عليها نجاحه الخاطف في البداية وهي الدعوة لـ"سياسة جديدة" أو مفهوم جديد للسياسة. فبكل الحسابات والسجلات، ليس في شخصية بايدن ما يشير إلى غرامه الشديد بالديموقراطية الشعبية التي هي جوهر "السياسة الجديدة" أو المفهوم الجديد للسياسة كما تبناه أوباما. بايدن على العكس تماماً من "المفهوم الجديد" للسياسة؛ فهو سياسي يميني في الجوهر. واختياره يمثل خيانة شديدة من جانب أوباما للقاعدة الشعبية التي أطلقت حملته الانتخابية وجعلته رمزاً لامعاً إلى هذه الدرجة. فلماذا اختاره أوباما؟ لأسباب هي في رأيي سطحية ومتعجلة. أهمها أنه استند على نتائج بعض الاستطلاعات التي تقول إنه إن أضاف بايدن لتذكرته الانتخابية فقد يوسع الفارق لصالحة مع منافسه الجمهوري. كما أن أوباما كان بحاجة إلى رجل أبيض بجانبه يستطيع، كما يقولون، أن يعبر به فوق "هوة اللون" التي تفصله عن الطبقة العاملة البيضاء الأميركية المعروفة بانتماءاتها المتعصبة. ومن المضحك حقاً الحديث عن خبرة بايدن في السياسة الخارجية وفي الأمن القومي. ذلك أن صلب ما يدعو له أوباما كان خطاباً معاكساً لخطاب الأمن القومي الذي دفع أميركا لمستنقع العراق وأفغانستان. ولربما جازت هذه الحسابات لو لم يكن أوباما قد خسر حلفاءه أو في الواقع "خان نفسه". فهو تحول فجأة من اليسار إلى يسار الوسط في البداية ثم اقترب من الوسط أكثر وحاول أن يبيع نفسه للعسكرية الأميركية بزيارته للعراق وأن يسوق نفسه لدى اليمين الصهيوني بزيارة إسرائيل مبكراً. لكنه في النهاية، وباختياره لبايدن، أعطى إشارة قوية مفادها أنه صار يتحرك في حيز الوسط أو حتى يمين الوسط الديموقراطي. وكأن أوباما قد استخدم اليسار ككرسي طالت عليه قامته ثم ألقى بالكرسي جانباً وصار معلقاً في السقف: لا يعرف لقدمه مكاناً ولا أين يسقط بها على الأرض. لهذا السبب في رأيي، بدأ أوباما يفقد سبقه في استطلاعات الرأي العام منذ أسابيع قليلة، حيث لحق به جون ماكين. وهنا يصبح من الصعب للغاية على بايدن الذي لم يتمتع بشعبية قومية أن يدفعه إلى الأمام كما توقع ثلاثة أرباع الناخبين الأميركيين في واحد من استطلاعات الرأي الأخيرة. وسنرى الاستطلاعات الأحدث، وتوقعي هو أن أوباما قد يستعيد سبقه الانتخابي الذي كان وصل إلى 7%، لكنه سيعود لاحقاً ليفقده بسرعة. والسبب هو أنه ترك ما صعد عليه، فخسر ملايين الشباب الذين حاربوا من أجله دون أن يكسب خصومه ولا أن يحصل على رضا خصومه من خلال سياسي يميني أبيض وكاثوليكي! ويمثل خطأ اختيار بايدن نموذجاً أسوأ مما وقع للرئيس كلينتون الذي حمله اليسار والمناضلون من أجل التغيير للانتصار ضد بوش الأب. وفي غضون أقل من عامين، كان كلينتون يغادر منصة اليسار ويذهب للوسط ثم إلى يمين الوسط. وبينما كان كلينتون قد حقق أفضل إنجازاته عندما طبق برنامج اليسار، فقد سقط في الوحل وكان على وشك العزل والاتهام بالخيانة لأنه غادر منصة اليسار بل ومنصة الوسط الليبرالي. أو لأنه كان خان نفسه. الفارق أن أوباما فعلها قبل أن يصبح رئيساً أو حتى قبل أن تقترب الانتخابات الرئاسية من لحظة الحسم بكثير. ما يهمني هنا ليس أوباما، وبالطبع ليس بايدن أو غيرهما من الساسة الأميركيين. ما يهمني في الحقيقة هو هذه المتلازمة المرضية التي تجعل السياسي المحترف يخسر حلفاءه الحقيقيين أو أقرب الناس إليه كي يتودد لخصومه السياسيين على أمل إرضائهم. لكنه في الغالب لا يحصل على ثقة خصومه، بل على احتقارهم، وفي الوقت نفسه يكون قد فرق حلفاءه شيعاً وبدد قواهم وفقد حماسهم وأزهق الآمال في صدورهم بالتغيير أو بالنصر. والواقع أن هذه المتلازمة تصلح لتصوير وفهم ما حدث للعرب خلال الثلاثين عاماً الأخيرة. حاولوا التقرب من خصومهم على أمل الحصول على حل ما وسط، فخسروا حلفاءهم دون أن يكسبوا رضا أعدائهم، بل أكثر من ذلك خسر العرب أنفسهم ولم يستعيدوها منذ ذلك الوقت. ولأن العرب لم يستعيدوا الروح، يهتف سيناتور مغمور حدث أن رُشحَ نائباً للرئيس الأميركي من على بعد أكثر من عشرة آلاف ميل من الأرض المقدسة: "أنا صهيوني"!