على مدى الستة أشهر الأخيرة ساد اعتقاد لدى مدراء الشركات والمحللين أن الرأسمالية تمر بأزمة خانقة ستحتاج للخروج منها إلى سنوات من الجهد المصحوب بإجراءات مؤلمة، فقد كتب في هذا السياق عميد المعلقين الماليين، "مارتين ولف"، واصفاً الوضع الحالي بأنه "سقوط آخر لإله أيديولوجي"، كما قال "جيفري إيملت"، المدير التنفيذي لشركة "جينرال إليكتريك"، أن "الشركات ستغير طريقة عملها"، فضلا عن توقع "تيموثي جايذنر"، وزير الخزانة الأميركي، أن "تصبح الرأسمالية مختلفة". لكن رغم الصرامة التي انطوت عليها هذه العبارات، ومع أننا لم نقم بتأميم البنوك، أو إخضاع الرأسمالية لتغييرات كبرى وجوهرية، فإن الشعور بالذعر الذي رافق اندلاع الأزمة آخذ في التبدد. ففي جميع الأحوال ربما كانت الأزمة مجرد وهم بالغنا في خطورته، أو أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الأميركية، وباقي الدول، أعادت الأمور إلى نصابها وخففت من حدة الأزمة الاقتصادية. ومع ذلك مازال العديد من الخبراء مقتنعين بخطورة الأزمة وصعوبة الخروج منها؛ لأن ما اقترحوه من حلول شاملة لم تطبق بعد، حيث يتوق أغلبنا إلى إيقاع عقوبة ما بالمصرفيين الأميركيين لتسببهم في الأضرار الكبيرة التي لحقت بالقطاع المالي وأفقدت عشرات الآلاف وظائفهم. لكن في العمق تبقى الأسواق بعيدة عن الأخلاق لاعتمادها بشكل أساسي على أنظمة بالغة التعقيد، فلو نجحت في تحقيق بعض الاستقرار تواصل طريقها غير آبهة بما يحدث. ولتوضيح ذلك دعونا ننظر إلى المسار الذي اتخذته الأسواق خلال العشرين سنة الماضية؛ مثل انهيار سوق الأسهم المالية عام 1987 عندما تهاوى المؤشر الصناعي لداو جونز بحوالي 23 في المئة مسجلا أكبر خسارة في التاريخ تتعرض لها سوق الأسهم خلال يوم واحد. حينها كتب الاقتصادي الأسطورة "جون كينيث جالبرايث" أنه فقط يتمنى بألا يكون الركود القادم أسوأ وأكثر ألماً من الكساد العظيم في الثلاثينيات، ليتضح بعد ذلك أن الانهيار لم يكن أكثر من وعكة مؤقتة سرعان ما أفسحت المجال أمام ازدهار أقوى وأرسخ. وبعد ذلك جاءت أزمة دول شرق آسيا عام 1997، والتي كتب "بول كروجمان" في عزها قائلا إن "الاقتصاد العالمي لم يشهد من قبل سقوطاً مدوياً كالذي تشهده الأسواق الآسيوية". ويبدو أنه كلما حلت أزمة اقتصادية سارع المحللون إلى التنبؤ بنهاية ملمح من ملامح المشهد الاقتصادي العالمي وظهور آخر، لكن غالباً ما يمتد الملمح القديم لسنوات لاحقة مخالفاً كل التوقعات، ففي انهيار عام 1987 اعتقد البعض أن المسؤولية تقع على عاتق الأساليب الجديدة في التجارة المعتمدة على الكمبيوتر، إلا أنه بدلا من اختفاء الكومبيوترات، توسعت أكثر في السنوات التالية. كما أن المحللين افترضوا بعد الأزمة الآسيوية أن يتم التخلص من عبارة "الأسواق الناشئة" التي استمرت رغم كل ذلك وأصبحت اليوم مركز النمو العالمي. ونفس الأمر ينطبق على وزير الخزانة الأسبق "روبت روبين" الذي توقع بعد انهيار إحدى الشركات المهمة عام 1998 اختفاء صناديق التحوط لتواصل عملها بعد ذلك. وبينما نسمع اليوم أن الأزمة الحالية ستقضي على المشتقات المالية، يدعو روبرت شيلر"، وهو أحد الخبراء الاقتصاديين القلائل الذين تنبأوا بالأزمة الاقتصادية، إلى ضرورة تلك المشتقات لاستعادة الاستقرار إلى الأسواق. وفي السياق نفسه قد نجد أنفسنا بعد سنوات من الآن أكثر حاجة للرأسمالية من أي وقت مضى؛ فالأزمات الاقتصادية تسبب بطئاً في النمو وعندما تحتاج الدول إلى إنعاش الاقتصاد مجدداً لا مناص لها من العودة إلى الأسواق. فبعد الأزمة الآسيوية والمكسيكية التي هزت استقرار العملات، شهدنا تسارعاً في وتيرة الإصلاحات الاقتصادية القائمة على تحرير الأسواق. وفي أميركا أيضاً إذا استمر تردد المستهلك الأميركي في الإنفاق، وإذا بقيت الحكومة الفدرالية والحكومات الولائية تئن تحت وطأة الديون، وظلت الشركات الحكومية عبئاً ثقيلا... سيصبح القطاع الخاص الطريق الوحيد لاستحداث الوظائف، ذلك أنه في الأخير ورغم كل اختلالاتها، تبقى الرأسمالية المحرك الاقتصادي الأكثر إنتاجية حتى الآن. ولا ننسى أن الحجة الأكبر المساندة للرأسمالية، تأتي من تلك الدول التي انخرطت في إصلاحات اقتصادية شاملة، وفتحت أسواقها؛ مثل الهند والصين والتي هي اليوم الأقل تأثراً بالأزمة الاقتصادية، بل يُعلق عليها الأمل في إخراج الاقتصاد العالمي من تباطئه. وقد شهدنا كيف أن الهند التي خاضت انتخاباتها في عز الأزمة الاقتصادية، منيت أحزابها اليسارية الرافضة للسياسات الليبرالية بهزيمة نكراء وحصدت أسوأ النتائج في الأربعين السنة الماضية. ----- فريد زكريا رئيس تحرير النسخة الدولية لمجلة "نيوزويك" الأميركية ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"