نقاش كبير بدأ خلال الآونة الأخيرة في الولايات المتحدة، موضوعه كيف ينبغي على أوباما أن يرد على نتائج انتخابات ماساتشوسيتس الأخيرة، والتي كانت تصويتا احتجاجا عليه، وعلى الديمقراطيين في الكونجرس، وعلى مقترحهم الرئيسي حول مشروع قانون الرعاية الصحية! أما نصيحتي البسيطة، فهي كالتالي: على أوباما أن يتصرف كرئيس لأميركا مثلما وعد خلال حملته الانتخابية. في دراسته التي مازالت خلاصاتها صالحة لليوم والتي نُشرت بعنوان "الأمة الأميركية"، لاحظ جيمس برايس، وهو كاتب بريطاني جاب الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، أن "الآباء المؤسسين" أنشؤوا منصب الرئيس حتى يكون شبيهاً بمنصب الملك في بريطانيا، "ليس فقط من حيث كونه رئيس الجهاز التنفيذي، ولكن أيضا من حيث أنه ينأى بنفسه عن الأحزاب السياسية ويسمو فوقها. فهو لتمثيل الأمة كلها... والمؤمل هو أن تجعله استقلالية منصبه، على اعتبار أنه ليس لديه ما يكسبه أو يخشاه من الكونجرس، حراً بحيث يتفرغ للتفكير في مصلحة الشعب فقط". والواقع أن أوباما بدأ رئاسته في هذا الإطار. ففي رده على الأزمة الاقتصادية، اختار مسارا وسطا، حيث رفض دعوات اليسار إلى تأميم البنوك، وتبنى في الوقت نفسه مقاربة أكثر حزما وتوجيها للاقتصاد مما يستطيع اليمين قبوله. وبخصوص السياسة الخارجية، أعاد تلميع صورة أميركا في العالم على نحو استحق عليه ثناء رجال أمثال بيكر وسكوكروفت. لكن هذه المقاربة الأوسع وُضعت جانباً لدى تمرير مخطط تنشيط الاقتصاد، قبل أن يتم التخلي عنها نهائياً خلال الجهود الرامية لإصلاح النظام الصحي. وخلال الأشهر الستة الماضية، تصرف أوباما على نحو أقل كرئيس، وعلى نحو أكثر كرئيس للوزراء؛ حيث لم يرسم رؤية عامة للبلاد، ولم يتبن أفضل الحلول، من اليسار واليمين، لمشاكلها. وتصرف بالمقابل كرئيس للحزب الديمقراطي في الكونجرس، حيث عمل حصرياً مع هذا الفريق السياسي وعبره. كما سمح بإعادة كتابة وتعريف برنامجه السياسي على أيدي مجموعة من ديمقراطيي الكونجرس، موافقاً بذلك على مشاريع القوانين غير المتوازنة التي ظهرت لاحقاً. بيد أنه إذا كان أوباما يمثل الشعب، فعليه أن يتذكر أنه بالنسبة لـ85 في المئة من الأميركيين، فإن الأزمة الكبيرة المتعلقة بالرعاية الصحية هي بسبب الكلفة. أما بالنسبة لـ15 في المئة، فهي بسبب توسيع التغطية. والحال أن مخططه لا يولي أهمية للأولى، ويركز في الغالب على الثانية. المدافعون يجادلون بأن أوباما لم يتصرف إلا على نحو واقعي، وذلك على اعتبار أن من شأن التركيز على خفض الكلفة استعداء كل القوى نفسها -شركات التأمين وشركات الصيدلة- التي تسببت في إفشال إصلاح الرعاية الصحية في عهد كلينتون. غير أن النتيجة شيء لا يستطيع إنسان نزيه وصادق أن يسميه "إصلاحا"، وشيء ما لبث يفقد دعم الجمهور بشكل مضطرد أثناء مروره عبر الكونجرس. وحسب استطلاع للرأي أجرته صحيفة "وول ستريت جورنال" مؤخراً، فإن أوباما أبلى بلاءً حسناً بخصوص كل الجوانب المتعلقة بالزعامة، غير أن أقل النقاط التي سجلها جاءت حين سُئل المستجوَبون حول ما إن كانوا يتفقون مع مقترحاته، وما إن كان قد نجح في تغيير طريقة اشتغال واشنطن. بعبارة أخرى، إن أوباما ابتعد كثيراً عن الوسط، واقترب كثيراً من المصالح الخاصة. صحيح أن الحزب الجمهوري قرر ألا يبدي أي تعاون مع أوباما، غير أنه في ما يتعلق بما إن كان أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون سيكافؤون أوباما أم لا لتبنيه مقاربة غير متعصبة حزبياً، فالأكيد أن المستقلين سيفعلون، وهو ما من شأنه أن يغير حينها الحسابات السياسية في واشنطن. وهنا تجدر الإشارة إلى ما قاله رئيس موظفي البيت البيت الأبيض، رام إيمانويل، من أن المهمة لا تكمن في تمرير تشريع الرعاية الصحية عبر "اللجنة الخاصة لمؤسسة بروكينجز، وإنما عبر الكونجرس الأميركي". فالحقيقة هي أن المقترحات التي من شأنها أن تُبهر الخبراء هي سياسات من شأنها أيضاً أن تُبهر ملايين المستقلين، وهم الذين يشكلون الطبقة الوسطى الواسعة حيث تُكسب الانتخابات في الولايات المتحدة أو تُخسر. فتلك هي الطريقة التي تفوق بها كلينتون على جينجريتش، وتفوق بها بلير على المحافظين طيلة 10 سنوات. وبخصوص الرعاية الصحية والطاقة والضرائب والهجرة وعجز الميزانية وغيرها، يتعين على أوباما أن يبتعد عن سياسة التشريع ويعود إلى الرئاسة، حيث يتوقع منه أن يقدم أفضل المقترحات للمساعدة على حل مشاكل أميركا. وقد يحظى بدعم الجمهوريين وقد لا يحظى، لكنه سيكسب رأسمال سياسي وقوة سياسية، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي ستتيح له على المدى الطويل سن أجندة كبيرة. والحقيقة أن هذه المقاربة هي بالضبط ما وعد به أوباما خلال حملته الانتخابية، حيث تعهد بمد يده إلى الجميع، والإصغاء إلى أفضل الأفكار، والسعي لنيل رضا مختلف شرائح البلاد كلها. كما أنه هو القائل: "إنني لا أرى أميركا زرقاء (ديمقراطية) وأميركا حمراء (جمهورية)، وإنما أرى فقط الولايات المتحدة الأميركية". وعليه، ينبغي لأوباما أن يغير الاتجاه ويحكم البلاد كرئيس، مثلما وعد بأن يكون. وذاك هو التغيير الذي يمكنني أن أؤمن به! --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"