لا تزال الأوساط الرسمية والشعبية على مستوى العالم تتفاعل، وبشكل قوي، مع تداعيات حادثة مهاجمة قافلة الحرية. ومن المنظور العام لتلك الردود والتداعيات فهي تتأرجح بين وصف الهجوم (بالقرصنة) تارة (وبالإرهاب) تارة أخرى. وهذا في الواقع ما دفع إلى طرح السؤال التالي: ما هي نظرة القانون الدولي لهذا الهجوم الإجرامي؟ يمكن إيجاز الحادثة بقيام القوات الإسرائيلية في 31 مايو 2010 بمهاجمة أسطول الحرية أثناء إبحاره في المياه الدولية. وكان الأسطول عبارة عن عدد من سفن الركاب والشحن المدنية تحمل أعلام عدد من الدول، وكان على متنها مئات الأشخاص من مختلف الجنسيات، ومحملة بمساعدات إنسانية بتمويل من منظمات إنسانية من مختلف الجنسيات. فبعيد انطلاق القافلة من أحد الموانئ القبرصية، وإبحارها في المياه الدولية في طريقها إلى قطاع غزة الفلسطيني (بهدف إيصال المساعدات وكسر الحصار العام المفروض عليها من قوات الاحتلال الإسرائيلية منذ عام 2007)، اعترضتها فجأة قوات (الكوماندوز) الإسرائيلية، واقتحمتها وحولت مسارها بالقوة إلى ميناء (أسدود) الإسرائيلي. أسفر الهجوم عن مقتل ما يقارب عشرين شخصاً، وجرح العشرات، واعتقال بقية الركاب، كما ترتب على الهجوم تخريب السفن، والاستيلاء على حمولتها، وتعريض سلامة ملاحتها للخطر. لا شك أن العالم بأسره (والجاليات اليهودية والإسرائيليين أنفسهم) قد تفاجئ من همجية التصرف الإسرائيلي وشناعة الحادثة، ولم يجد إلى الآن تبريراً منطقياً لها. فجسامة التجاوز الإسرائيلي هذا أفرز، وبشكل فوري، تداعيات على كافة المستويات الدولية والداخلية، ونجم عنها توتر شديد في العلاقات بين الدول المعنية، خاصة بين تركيا المنظم والمنسق الرئيسي للقافلة وبين إسرائيل. ولكن من كل ذلك نعود إلى ما يعنينا هنا هو السؤال التالي: هل هذه الحادثة، ومن منظور القانون الدولي، تشكل جريمة قرصنة بحرية أم جريمة إرهاب بحري؟ بشكل أولي يمكن القول إن جانباً من الشروط القانونية، وأركان أساسية لقيام جريمة القرصنة الدولية، حسب ما حددتها المادة (101) من اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بقانون البحار 1982، غير متوفرة في هذه الحادثة، فعلى سبيل المثال، فإن الغرض من جريمة القرصنة، وبحسب نص المادة (101) من اتفاقية قانون البحار 1982م، يشترط فيه أن يكون خاصاً؛ أي أن يعود بالمصلحة الخاصة للقراصنة فقط؛ كالسلب، والابتزاز للحصول على المال، ونحو ذلك، ويتضح ذلك من منطوق عبارة "لأغراض خاصة" الواردة في المادة المذكورة. أما إن كان الغرض من الحادثة عسكريا وسياسيا، كما هو الحال في هذه الحادثة، فلا يمكن اعتبارها من قبيل جرائم القرصنة. هذا من جانب ومن جانب آخر، فجريمة القرصنة، وبموجب المادة المذكورة، لا يمكن ارتكابها من قبل سفينة حربية، ولا من قبل موظفين حكوميين، كما هو الحال في هذه الحادثة. وعليه، فلا يمكن تكييف حادثة الاعتداء على قافلة الحرية على أنها من قبيل جرائم القرصنة الدولية. هل ذلك يعني أن الحادثة من قبيل جرائم الإرهاب البحري؟ الجواب نعم. فالقانون الدولي ممثلاً هنا باتفاقية روما الخاصة بقمع الأعمال غير المشروعة الموجهة ضد الملاحة البحرية والموقعة في روما عام 1988م. والتي عددت في المادة (3) منها مجموعة من الأعمال، واعتبرتها من قبل جرائم الإرهاب البحري، وهي على النحو التالي: يعتبر أي شخص مرتكباً لجريمة (إرهاب بحري) إذا أقدم، بطريقة غير قانونية وبصورة متعمدة، بالاستيلاء على سفينة أو السيطرة عليها بالقوة ... أو تنفيذ عمل من أعمال العنف ضد شخص على ظهر سفينة، أو تدمير سفينة أو إلحاق الضرر بها أو بطاقمها، إذا كان ذلك العمل يعرض سلامة ملاحة السفينة للخطر. كما يعد من قبيل الإرهاب البحري التسبب بجرح أو قتل أي شخص عند ارتكاب أو مجرد محاولة ارتكاب تلك الأفعال.من الملاحظ أن هذه المادة في بدايتها تضمنت، وبشكل صريح، عبارة "أي شخص" الأمر الذي يفيد بسريان الاتفاقية على أي شخص سواء كان يعمل لحسابه الخاص، أو نيابة عن أي منظمة أو بناءً على تعليمات رسمية أو غير رسمية من دولة. كما تضمنت ذات المادة كذلك عبارة "بطريقة غير قانونية" أي أن يكون من قام بذلك الفعل ليس له الصفة أو الحق في القيام بذلك، أما إذا تم الفعل بطريقة قانونية؛ كأن يصدر، مثلاً، من الدولة المالكة بهدف (وفي حدود) استعادة بسط السيطرة على السفينة التابعة لها، والمخطوفة في أعالي البحار أو في مياهها الإقليمية، فهنا لا جريمة بموجب هذه الاتفاقية، لكون الفعل قد تم بطريقة قانونية. ومن طبيعة الهجوم الإسرائيلي على قافلة الحرية، وما صاحبته من: أحداث عنف وقتل وتدمير متعمد على متن سفن القافلة، والاستيلاء بالقوة غير المشروعة على حمولة السفن، وتخريب السفن وتعرض سلامة ملاحتها للخطر الجسيم، واقتحام وتغيير مسار القافلة بالقوة (غير القانونية) إلى غير وجهتها الأصلية، وانتهاك صارخ للقوانين والأعراف الدولية، وخرق صريح لمبدأ حرية الملاحة المكفول لجميع الدول في أعالي البحار. الأمر الذي يمكن على أساسه القول إن (الأركان والعناصر والشروط) المطلوبة لتشكيل وقيام جريمة الإرهاب البحري متوفرة، وهي في الواقع تحقق كل ما هو مطلوب لتكييف الهجوم قانونياً، وبموجب اتفاقية روما 1988، على أنه جريمة من جرائم (الإرهاب البحري). وكما يمكن الاستناد على ذات الاتفاقية والعمل بها لتوجه الاتهام ومعاقبة الجناة وكل من يقف خلف ارتكاب هذه الحادثة. علماً، وهذه نقطة مفصلية، أن جميع الدول المعنية بالحادثة أطراف في اتفاقية روما 1985. ومن الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى حادثة إرهابية مشابهة، وهي حادثة تفجير السفينة الهولندية الشهيرة (Rainbow warrior) التابعة لمنظمة السلام الأخضر، والتي استهدفت بالتفجير في 10 يوليو 1985 أثناء رسوها في مرفأ (أوكلاند) النيوزلندي، من قبل عناصر سرية تابعة للقوات المسلحة الفرنسية، وأسفر التفجير عن إغراق السفينة ومقتل أحد أفراد طاقمها. هذا، ويرجع سبب تدمير السفينة إلى إعلان المنظمة عن معارضتها الشديدة لسلسلة التجارب النووية المزمع إجرائها من قبل الحكومة الفرنسية آنذاك في المحيط الهادي، وأشارت المنظمة، وفي إطار محاولتها الرامية لمنع إجراء تلك التجارب، إلى أن السفينة المذكورة ستشارك وتقود مجموعة من السفن للتظاهر والتواجد في نفس مكان ووقت إجراء التجارب. وبناءً على نتائج التحقيقات التي أجرتها السلطات النيوزلندية في الحادثة، وإلقاء القبض على عدد من الجناة الذين أقروا بجريمتهم، وجدت الحكومة الفرنسية نفسها مضطرة للاعتراف بمسؤوليتها عن الحادثة. ويشار هنا إلى رئيس الوزراء النيوزلندي في حينه قد وصف الجريمة بالعمل الإرهابي. كما ذهبت محكمة (أوكلاند) العليا، في حيثيات حكمها النهائي على الجناة، إلى أن ما قام به الجناة من جرم، وإن كان بموجب أوامر رسمية من السلطات الفرنسية، فذلك لا يغير شيئا من طابعه الإرهابي. فمجمل تبريرات الجهات الإسرائيلية (أو من المتعاطفين معها)؛ كالقول بوجود أسلحة على متن السفن، أو تجاهل السفن للأوامر بالعودة، أو المساس بأمن إسرائيل، والإدعاء بالتعرض لإطلاق النيران، الدفاع عن النفس (ضد عزل)، فكل ذلك، وغيره، لا يغير من الطابع الإرهابي للهجوم الإسرائيلي، لكون الجرم جليا ويشكل انتهاكا واضحا للقانون الدولي. د.جمال محمد خليفة المري E-Mail: marri@eim.ae