لم يكن الشعور بفراغ السلطة في دمشق قوياً عند الرأي العام السوري والعالمي كما هو عليه اليوم. فبعد أكثر من شهر ونصف الشهر على آخر خطاب للرئيس السوري توجه به إلى أعضاء حكومته الجديدة لحثهم على تحسين نوعية الخدمات العامة المقدمة للمواطنين، يكاد يكون المشهد خالياً من أي مبادرة أو قرار أو توجيه سياسي أو بيان من قبل الحكم، إذا استثنينا حديث وزير الخارجية الذي قال فيه إنه ليس رجل سياسة وإنما هو منفذ فحسب. لا يعني هذا الصمت المريب لرجال الدولة أنه لا توجد هناك سياسة، لكنه يعني أن السياسة الوحيدة التي اختارها أصحاب النظام هي أن يطلقوا يد الأجهزة الأمنية والعسكرية في الأحياء والمدن للاستمرار في تطبيق سياسة القمع والعقوبات الجماعية على المتظاهرين، بانتظار أن تحدث معجزة تسمح لرجال السياسة في النظام أن يخرجوا على الرأي العام بخطاب جديد يؤكد أنهم انتصروا، وأنهم الوحيدون الذين يقررون مصير البلاد، وبرنامج الإصلاح ورزنامته وحدوده. وهذه السياسة هي التي لم يكف المسؤولون السوريون عن التأكيد عليها بترددهم دائماً أنهم لا يقبلون بالضغوط، ولا ينبغي لأحد أن يحاول النيل منهم. لكن الحملات التأديبية التي نظموها منذ أكثر من شهرين لتحقيق هذا الهدف، والتي ترجمت باجتياح منهجي للمدن والأحياء التي تشكل بؤراً قوية للثورة، وما قاموا به من قتل عشوائي للمتظاهرين، واعتقالات بالجملة للألوف منهم، قد باءت جميعها بالفشل. وبدل أن تخلق الوضع الذي حلم به النظام، كما صرحت به منذ أسبوعين مستشارة الرئيس السوري، قدمت هذه الحملات البرهان القاطع على أن بركان الاحتجاج يزداد زخماً يوماً بعد آخر، وأن المبادرة لا تزال بأيدي القوى الشبابية التي لم تكن أفضل تنظيماً وتنسيقاً في ما بينها مما هي عليه اليوم. والواقع أن القيادة السياسية السورية لم تفكر في احتمال أن لا تستطيع قمع الاحتجاجات وإخمادها، ولم تكن لديها رؤية سياسية لما يمكن أن تفعله في حالة كهذه. لقد كانت على ثقة مطلقة بأنها تملك وسائل القمع التي تمكنها من إعادة الشعب إلى أقفاصه القديمة، وأن المسألة ليست سوى مسألة وقت وتوسيع منظم لدائرة العنف ضد السكان لعلهم ينقلبون على فكرة الاحتجاج من أجل الحرية. وقد وضعوا في خدمة هذه الخطة كل ما لديهم من موارد مادية ومعنوية، ولم يسألوا لا عن رأي عام سوري ولا عربي ولا دولي، بل لم يسألوا حتى عن رأي حلفائهم السياسيين في العالم العربي وخارجه. فتورطوا في عنف دموي ذاع صيته في أصقاع الأرض، فابتعد العالم عنهم بينما فقدوا الأمل في أن ينظر إليهم الآخرون كنظام سياسي يمتلك منطق السياسة ومفهومها، كما هي ممارسة في بداية هذا القرن الحادي والعشرين. من هنا شكّل إخفاق خطة قمع الحركة الاحتجاجية الشعبية مأزقاً استراتيجياً خطيرا للنظام. فمن جهة فقد بسبب انتهاكاته لحقوق الإنسان أغلب ما كان يملكه من رصيد، ولم يعد هناك من يراهن، حتى من القوى المؤيدة له، في سورية وخارجها، على أي مبادرة إصلاحية تصدر عنه. وهذا ما عبر عنه إلحاق اسم الرئيس السوري بقائمة الشخصيات التي تطبق عليها عقوبات أوروبية وأميركية. لكن من الجهة الثانية قطعت سياسات العنف التي مارسها لانتزاع النصر على الحركة الاحتجاجية بأي ثمن كل احتمالات فتح حوار جدي مع قوى المعارضة، تسمح للنظام بالمناورة للبقاء أو لاستعادة جزء من المبادرة السياسية. ولم يعد أحد، في سوريا وخارجها، يؤمن بأن نظاماً يستخدم هذا القدر من العنف يمكن أن يستمر. وباختصار فإن فشل الحل الأمني المطبق منذ عشرة أسابيع متواصلة، والذي راح ضحيته آلاف القتلى والجرحى والمعتقلين والمنكوبين والمشردين، لم يُبق أمام النظام أي خيار سوى الهرب إلى الأمام والتصعيد النوعي للعنف بحيث يزداد الضغط على الشعب، ويتعمق الخوف مما هو أعظم. هذا هو مغزى التوجه نحو قتل الأطفال، كما كان معنى إطلاق النار على النساء العزل منذ بضعة أيام، وتسليم الجثامين لأسرها، في الأسبوع الماضي، ثم إطلاق النار على حافلة للأطفال يوم السبت الفائت... كل ذلك جزء من رسائل موجهة أولا للشعب السوري مفادها أن هذا هو ما ينتظركم إذا قررتم الاستمرار في مسيرات مناهضة النظام والعمل على تغييره، وثانياً للرأي العام العالمي تؤكد له أن عزل النظام ومحاصرته ومعاقبته لن تزيده إلا شراسة وتحللاً من أي التزامات من تلك التي تحدد سلوك الدولة تجاه مواطنيها، وفي مقدمتها حفظ أمنهم. أمام نظام يترك فراغاً يغري جميع القوى المعادية للنظام بمحاولة استثماره، ليس من المقبول ولا المسموح أن تبقى المعارضة السياسية مشتتة أو غائبة عن الصورة. وبقاؤها في هذا الوضع، مهما كانت مبرراته، تخلق فراغاً خطيراً يثقل على شباب الاحتجاجات بقدر ما يترك آفاق التغيير مجهولة وغامضة، ويغري أيضاً الكثيرين بالاستفادة من هذا الفراغ لتحقيق مصالح ليس لا علاقة لها بما بذله الشهداء من دماء من أجل تحرير وطنهم من الاستعمار الداخلي. من هنا ربما أصبح من الضروري لشباب الانتفاضة أن يشاركوا هم أنفسهم في إطلاق شرارة تكوين الهيئات السياسية التي تتماشى مع تطلعاتهم وتعكس طموحاتهم وتواكب كفاحهم من أجل سوريا جديدة، سوريا حرة وديمقراطية تضمن الأمن والحرية والعدالة والمساواة لجميع أبنائها. وربما سيساعد مثل هذا العمل على تحرير المعارضات السياسية التي وجدت صعوبات في التحرك إلى الأمام، بعد شهرين ونصف من الكفاح البطولي والدامي لشباب الاحتجاجات المعجزة، من قيودها، ويدفعها للالتحام بهم ومواكبة مسيرتهم الصاعدة.