في شهر يناير الماضي، وعندما ألقى الرئيس جورج دبليو بوش خطاب "حالة الاتحاد" أمام الكونغرس الأميركي محتفلاً بالحرب "الاستباقية" ضد العراق، كان هناك منفي عراقي اسمه أحمد الجلبي يجلس في مكان تشريفي مميز خلف مقعد السيدة الأولى "لورا بوش".
ولم تكن رمزية الأمر حادثاً عرضياً: فعلى رغم كونه هارباً من الأردن بسبب إصدار حكم غيابي بحقه هناك استناداً إلى اتهامات له بارتكاب الاحتيال المصرفي، فإن حبيب المتشددين المحافظين الجدد هذا كان الشخص الأثير لدى البنتاغون والبيت الأبيض كما كان مستشاراً ذا أجر جيد ومتخصص في كل الشؤون العراقية، بما في ذلك أسلحة التدمير الشامل والارتباطات بين تنظيم القاعدة والعراق وكذلك احتمالات حدوث تمرد في مرحلة ما بعد الغزو. وكما بات واضحاً الآن، ظهر أن الجلبي والمحسوبين عليه كذبوا كثيراً بخصوص كل تلك الشؤون.
عندئذ، وفي سياق الغزو في عام 2003، تم نقل أحمد الجلبي والميليشيا التابعة له إلى العراق بالطائرات على حساب دافعي الضرائب في الولايات المتحدة الأميركية. وسرعان ما تم تعيين الجلبي من قِبل سلطة الائتلاف المؤقتة التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية كعضو في مجلس الحكم العراقي، كما تم تعزيز صلاحياته وسلطته بتعيين أقربائه وأعضاء التنظيم الذي يقوده في الوزارات العراقية الرئيسية.
وعندما تم تعيين سالم الجلبي ابن شقيق أحمد الجلبي كمسؤول عن محاكمة صدّام حسين، بدا واضحاً آنذاك أنه على رغم كل استطلاعات الرأي التي أظهرت أنه السياسي الذي يحظى في العراق بأقل قدر من الثقة، فإن أحمد الجلبي كان يحقق أداءً جيداً جداً لنفسه؛ وقد تبجح سالم الجلبي في الموقع الإلكتروني الخاص بمكتب المحاماة الذي يمتلكه بأنه من خلال نفوذه ومن خلال المستثمرين الأجانب استطاع المشاركة على نحو مربح في جهود إعادة إعمار العراق التي تبلغ قيمة عقودها 75 مليار دولار أميركي.
واليوم، بات من الصعب في أية حال أن نتخيل أن هناك أحداً يريد أن يكون في مكان أحمد الجلبي، أو في مكان بعض من كبار المسؤولين في البيت الأبيض الذي يحكمه الرئيس "بوش"، بمن فيهم وزير الدفاع "دونالد رامسفيلد" الذي واظب على دعم أحمد الجلبي. ومضمون هذه القصة كمضمون رواية صيفية عن الجاسوسية: طوال العطلة الأسبوعية وفي أثناء قضائه إجازته في منزل العطلات الذي يمتلكه في إيران- وهي كما تعلمون أحد بلدان "محور الشر" التي تمتلك حقاً برامج أسلحة نووية- تم اتهام أحمد الجلبي بتزوير عملة عراقية، وهو اتهام وجّهه قاض عراقي معيّن من قِبل الولايات المتحدة الأميركية. وتم اتهام سالم، وهو في هذه اللحظة موجود في مدينة لندن، بارتكاب جريمة قتل. وما يزال الجلبي العم خاضعاً أيضاً لتحقيق تجريه وكالات الاستخبارات الأميركية في دوره المحتمل في تمرير معلومات سرّية للغاية إلى إيران.
وفي رأي أولئك الذين يدوّنون بنود الحساب في العراق، هناك اثنان مدانان من آل الجلبي، وهي كدمة كبيرة لإدارة "بوش" وجرعة صحية من التبرئة بالنسبة إلى وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" ووزارة الخارجية الأميركية، وكلاهما اتخذت منذ وقت بعيد قراراً بأن أحمد الجلبي شخص ليس جديراً بالثقة كما عارضتا بقوة اعتباره كشخص يشبه "جورج واشنطن" بالنسبة إلى العراق الذي تم تحريره.
ويعلن كلّ من أحمد وسالم الجلبي براءتهما. ويزعم المدافعون عنهما، الذين يتزعمهم "ويليام سافاير" الكاتب في صحيفة "نيويورك تايمز" كما يزعم أحمد الجلبي نفسه أيضاً أن كل مشكلاته نابعة من ثأر يريد أخذه "بول بريمر الثالث" الحاكم المدني للعراق المحتل والذي غادر العراق منذ وقت قريب. فهل من الممكن لذلك الزعم أن يفسر لماذا يوجّه الجلبي، الذي كان ذات يوم أقوى المؤيدين العراقيين للغزو الأميركي وأعلاهم صوتاً، دعوة إلى الأصوليين الشيعة لإخراج الأميركيين من العراق؟
من الجائز أن يكون أحمد الجلبي قادراً على الدفاع عن نفسه ضد الاتهامات الموجّهة إليه حديثاً بارتكاب أعمال احتيال، لكن من الصعب أن يبرئ اسمه ممّا لحق به. ذلك أن ارتباطاته القوية والمستمرة بطهران والمزاعم التي تقول إنه تجسس لحساب إيران، هي أمور تثير تساؤلاً خطيراً يبدو أن هناك قلة قليلة فقط تتلهف إلى إثارته، وهو تساؤل مفاده: هل كان رجلنا الجلبي عميلاً مزدوجاً يعمل لحساب ملالي إيران الحاكمين عندما ساعد على دفع الولايات المتحدة بحشد التأييد وبالضغط وبالكذب إلى الإطاحة بصدّام حسين عدوّ إيران المستبد، لكن العلماني؟.
وفي ما يتجاوز مسألة الجلبي، لماذا فات تماماً انتباه إدارة "بوش" وكثير من وسائل الإعلام أننا بالتخلص من الطاغية العلماني صدّام حسين سنفتح الباب أمام الأغلبية الشيعية العراقية لكي تقيم نظام حكم خاصا بها، والذي من شأنه على الأرجح أن يكون متعاطفاً مع إيران الشيعية، ليس فقط لأسباب دينية بل لأن كثيراً من زعمائها الجدد قد تلقوا الحماية والسلاح والدعم المالي من طهران عندما كانوا في المنفى؟.
كم هي مفارقة كبيرة تدعو إلى السخري