هل نحن بصدد ميلاد الولايات المتحدة الأوروبية على شاكلة الولايات المتحدة الأميركية؟ الحقيقة أن هناك العديد من نقاط التشابه الغريبة والمثيرة في الوقت نفسه بين ما يجري حاليّاً على الساحة الأوروبية من شد وجذب وبين ما كان يحدث في الولايات المتحدة قبيل قيام الاتحاد وظهور أميركا على المسرح العالمي كما نعرفها اليوم، فقد كان مؤتمر فيلاديلفيا في عام 1787 هو الجولة الثانية في مسيرة توحيد أميركا والفرصة الأخرى التي منحتها الولايات المنفصلة لنفسها كي تندمج في إطار اتحادي. وقبل ذلك التاريخ وتحديداً في عام 1781 اجتمعت الولايات الـ13 ضمن معاهدة دستورية فضفاضة تشبه إلى حد كبير المعاهدة الأوروبية الحالية التي تضم دول الاتحاد الأوروبي المختلفة بنفس الترتيبات والمعايير، وقبل الاتحاد الذي أفرز لنا الولايات المتحدة الأميركية كانت الكيانات المختلفة ممثلة في الولايات مندمجة في إطار بنود الكونفدرالية، وهو شكل من التعاون والتنسيق يكفل لمواطني الولايات المتفرقة التحرك بحرية داخل الولايات وممارسة نفس الحقوق الاقتصادية لقاطني الولاية. كما أنتج الإطار الكونفدرالي مجلساً منتخباً ضعيفاً كان بمثابة النواة الأولى للكونجرس، وسلطة قضائية تتولى فض النزاعات الناشئة بين الولايات، ولكن ما كان ينقص الاتحاد الكونفدرالي هو نفسه ما ينقص الاتحاد الأوروبي اليوم، أي الفاعلية والقدرة على فرض الضرائب على الجميع، وهو ما منع الاتحاد من كفالة ديون الحرب الكبيرة التي كانت تتكبدها الولايات المختلفة. ولأن تلك الولايات كانت تمر بأوقات عصيبة وتعاني ميزانياتها من عجز كبير فقد تراجعت سنداتها على نحو ملحوظ في سوق السندات، الأمر الذي هز ثقة المستثمرين الأوروبيين في المشروعات المزدهرة يومذاك في العالم الجديد. وقد كانت هذه المشاكل من العوامل المحددة والمحفزات الأساسية التي دفعت في اتجاه تعزيز الاتحاد والانتقال به من الصيغة الكونفدرالية إلى صيغته الفيدرالية النهائية، ولذا جاء الدستور الجديد لعام 1787 كي يعطي السلطة المركزية صلاحيات جديدة لفرض الضرائب وإقامة مؤسسة مالية شبيهة ببنك إنجلترا المركزي، ومباشرة بعد تشكيل الحكومة الفيدرالية ودخولها حيز التنفيذ أقدمت على إنشاء بنك وطني وشراء ديون الولايات المتعثرة لإنقاذ سنداتها وتعزيز وضعها المالي، وهو ما أدى في النهاية إلى عودة الثقة في الولايات المدعومة فيدراليّاً ورجوع المستثمرين لدفع عجلة الاقتصاد، وفي النهاية تراجعت أزمة الديون في الولايات وعادت الصدقية مجدداً إلى الجمهورية الوليدة في الأسواق المالية الأوروبية. ولكن قبل الوصول إلى هذه النتيجة عرفت مسيرة الاتحاد الأميركي عدة عراقيل وصعوبات كانت أهمها المشكلة التي يواجهها الاتحاد الأوروبي اليوم والمتمثلة في صعوبة تمرير الدستور الجديد الذي بحسب بنود الكونفدرالية كان لابد من حصول موافقة بالإجماع على أي تعديل في بنوده، وبالطبع كان واضحاً أن مثل هذا التوافق بالإجماع غير متأتٍ في ظل المصالح المتضاربة للكيانات المختلفة. وفي ذلك الوقت كانت ولاية "رود آيلند" شبيهة ببريطانيا اليوم، حيث رفضت الولاية التجارية الصغيرة التخلي عن سيادتها والخضوع للاتحاد الفيدرالي الجديد، بل إنها رفضت إيفاد مبعوثيها إلى مؤتمر فيلاديلفيا لمناقشة الوضع والخروج بنتيجة، ونددت بالمحاولة على أنها مسعى انفصالي غير مشروع وخروج عن بنود الكونفدرالية التي تم الاتفاق عليها في وقت سابق، وهو ما كان بالفعل، فبعد صيف كامل من اللقاءات السرية والمشاورات الطويلة للخروج من الأزمة المالية التي ضربت الولايات خرج المشاركون في مؤتمر فيلاديلفيا إلى العلن بوثيقة تقول إنه على رغم ما تفرضه البنود الكونفدرالية من إجماع لتغيير المعاهدة الموقعة بين الولايات، فإن الدستور الجديد سيرى النور عندما تصادق عليه تسع ولايات فقط من أصل 13 ولاية تشكل الاتحاد. وأمام هذا التغيير الكبير في قواعد اللعبة رفضت "رود آيلند" ومعها كارولينا الشمالية الانضمام إلى الدستور الجديد وما نتج عنه من اتحاد فيدرالي، وعندما انعقد أول كونجرس أميركي في عام 1789 كانت هناك فقط 11 ولاية في الاتحاد، ولم ترضخ الولايتان إلا بعد ضغوط مارسها الاتحاد الجديد وتلويح الكونجرس بفرض رسوم جمركية على تجارة الولاية ما لم تتخلى عن معارضتها. هذه الحقائق المحرجة التي يتناساها حتى أكثر الطلبة جدية في دراسة الدستور الأميركي يتعين استحضارها اليوم في ظل الأزمة المالية الأوروبية، فمع أن أعضاء المعاهدة الأوروبية الجديدة لمنطقة اليورو لن يذهبوا إلى حد إرغام بريطانيا على الخضوع على شاكلة ما جرى لولاية "رود آيلند"، لكن إذا أصر ديفيد كاميرون على موقفه الرافض للتعديلات الجديدة على المعاهدة الأوروبية فإنه يغامر بإخراج بلاده تماماً من الاتحاد الأوروبي، فالمعاهدة الجديدة لمنطقة اليورو ستنشئ كتلة كبيرة تختلف مصالحها عن باقي الأعضاء غير المنتمين للعملة الموحدة داخل الاتحاد الأوروبي، وهؤلاء الأعضاء سيستمرون مع ذلك في الاعتماد على القرارات المساندة لهم من المؤسسات الأوروبية. وبالنظر إلى هذه الدينامية فإن كاميرون يخدع نفسه إذا اعتقد أن المؤسسات الأوروبية مثل المحكمة والمفوضية وغيرها ستواصل دعم جميع الأعضاء الـ27 للاتحاد في حين أن هذا الأمر يضر بالمصالح الأساسية لكتلة اليورو داخله، وعندما ستحاول بريطانيا تقويض اليورو من داخل الاتحاد الأوروبي فإن ذلك سيقود إلى أزمة دستورية ستنتهي بإخراج بريطانيا من الاتحاد على يد كتلة اليورو لمنعها من تخريب العملة الموحدة، وهو ما يفرض على إدارة أوباما التدخل عبر دبلوماسية جادة للمساعدة في ردم الهوة بين أوروبا وبريطانيا وإقناع الطرفين بالعودة إلى طاولة المفاوضات، لأنه في حال ترك الأمور على حالها فإنها ستفضي إلى قيام ولايات متحدة لأوروبا القارية بتكلفة باهظة ستضعف الغرب لفترة طويلة قادمة. بروس أكرمان أستاذ القانون والعلوم السياسية بجامعة يل الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي إنترناشونال"