شغل اسم الإمام زيد بن علي (قُتل 122هـ)، وبعده «الزيدية»، حيزاً كبيراً من تاريخ الإسلام، من الكوفة حيث ثار زيد، إلى المدينة والبصرة حيث قامت ثورتا الأخوين محمد النفس الزكية وإبراهيم (قُتلا 145هـ) مروراً بدولتها بطبرستان (250 –316هـ)، فبغداد دار السلطنة البويهية (334-447هـ)، ثم دعوتها ودولتها باليمن حتى عام 1382هـ، تخللها وجود دول أُخر بصنعاء، وحروبها ضد الإسماعيليين آل الصَّليحي وعلي بن فضل القرمطي (اغتيل 303هـ). وإذا شغلت الزيدية الماضي بثوراتها ودولها نجدها تشغل الحاضر بتحولاتها والمؤثرات الفاعلة فيها، التي لا تخرج عن مدار الكسب المذهبي، وتوظيفه سياسياً. فمن المعلوم أن الزيدية أجازت الخروج على ولي الأمر، تيمناً بإمامها الأول، الذي لم يخطر على باله أنه يؤسس مذهباً، حاله حال بقية مؤسسي المذاهب، إنما كانت مجرد آراء جمعت وصارت تعبر عن مذاهب خاصة، يتنازع الأتباع في مقالاتها. هنا ظهرت مشكلة، وهي أن الثائر نفسه عندما يستلم السلطة بالخروج على إمام زمانه لا يسمح بالخروج عليه، ومن هذا الباب، فُسح المجال للمذاهب التي لا تجوز الثورة، حصانة للدين ووقاية من فساد الفوضى حسب احتجاج فقهائها، مع وجود اجتهادات تريد العودة إلى زيد فقهياً وتتجاوز ما دخل على المذهب من قِبل الأئمة الثائرين. فالاعتقاد أن حصر الإمامة بالبطنين (الحسن والحسين) جاء به مؤسس الزيدية بصعدة الهادي إلى الحق (ت 298هـ)، وهو من الفرع الحسني لا الحسيني، وبهذا تكون الإمامة عند الزيدية، في الأصل، متجانسة مع ما تذهب إليه المذاهب السنية. مع ذلك برزت الزيدية واشتهرت باليمن بما قرره الثوار الأئمة، وبهذا يكون نصف الاتفاق مع الشيعة الإمامية، على أساس أن الأخيرة تقر بإمامة ما بعد الحسين لتسعة أئمة، إلى جانب أن زيداً اقتفى طريق جده الحسين بن علي (قُتل 61هـ) في ثورته. ولم تتشدد الزيدية في الإمامة فمع اعتبارها أن علياً هو الأفضل، جوزت خلافة المفضول، وذلك لضرورة دنيوية، وأن إحدى فرقها أعطت حلا مناسباً للإمامة، على أنها إمامة العِلم لا السياسة، ذكر هذا كبار الزيدية كالحميري (ت 573هـ) في «الحور العين»، والمرتضى (ت 840هـ) في «المنية والأمل». بمعنى أن الزيدية كانت تفكر وتسعى لحل هذه المعضلة، التي بسببها سفكت الدماء وبذرت الأموال، حسب وصف إخوان الصفا (القرن الرابع الهجري) للإمامة، وأصعب ما فيها أنها ماض قد ذهب والجدل حولها بلا طائل، وأفضل مَن عبر عن هذا الجدل البيزنطي، من المعاصرين، العلامة الإمامي محمد رضا المظفر (ت 1963): «ولا يهمنا من بحث الإمامة، في هذه العصور، إثبات أنهم الخلفاء الشرعيون وأهل السلطة الإلهية، فإن ذلك أمر مضى في ذمة التاريخ، وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن» (عقائد الإمامية). ولأن الزيدية وسط فهي «شيعة السنة وسنة الشيعة»، والعبارة مقتبسة من أحد مؤسسي «منتدى الشباب المؤمن» محمد عزان (الحرة، حديث الخليج)، والفاعل فيه حتى اعتزاله بسبب التحول الطاغي على حسين الحوثي (قُتل 2004)، فقد كان المنتدى ذا وجهة علمية تحول إلى العمل العسكري، وترديد شعارات الثورة الإيرانية، وإظهار التشدد في الإمامة بعيداً عن الفكر الزيدي السائد، فتجاوز ما نشأ المنتدى المذكور من أجله، وهو مواجهة العمل السلفي بين الزيدية بمنطقة دماج، وهذا ما كانت السلطة تشجعه، والأمر متعلق بالموقف من الثورة. سمحت وسطية الزيدية بظهور اجتهادات فيها، وظل المسجد باليمن واحداً للشافعية والزيدية معاً، وأن المؤذن يؤذن حسب مذهبه والمصلين يصلون بمذاهبهم، فإذا كان زيدياً يرفع «حي على خير العمل»، والمصلون يسبلون الأيدي (الزيدية) ويضمونها (شافعية)، وهذا بسبب الانفتاح الزيدي، ولا يغرب عن البال أن الزيدية في الفروع (الفقه) أحناف. ولا ننسى أن هذا الاعتدال كان مدعوماً بعقلانية المعتزلة، فقد تأثرت الزيدية بمعتزلة بغداد، وأُصولها الخمسة، والمعتزلة والزيدية وإن كانوا يقرون بالثورة لكنهم لم يجعلوا «الإمامة» أصلا دينياً، بل كانوا يقرون المفضول بوجود الفاضل، وبهذه الوسطية يمكن اعتبار الزيدية: «شيعة السنة وسنة الشيعة». فزماننا المجنون يحتاج «خطيباً لو قام بين وحوشٍ/ عَلم الضَّاريات بِرَّ النقاد» (المعري، سقط الزَّند). هذا يُطرب العُقلاء أما الغاوون طائفيةً فلا تطربهم سوى قصائد شاعري الكراهية والانتقام سُديف (قُتل 146هـ) وابن الجهم (قُتل 249هـ).