لعل النظرة الحالية لأوروبا من الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي ترى أعراض انهيار سياسي أوروبي، وأنه إذا كانت القارة العجوز تشتهر بالأناقة والموضة وفن العيش، فإن ذاكرتها أيضاً قصيرة ومعرضة للفقدان بسرعة، وذلك على اعتبار أن معظم دول أوروبا الغربية باتت اليوم تعاني تفاقماً لأحزاب قومية متطرفة -وإنْ كانت هامشية- خاصة في دولتين كبيرتين، هما فرنسا وبريطانيا. وهذه الأحزاب تستأثر باهتمام كبير نظراً لطابعها الدرامي، غير أنه من الصعب أخذها على محمل الجد كثيراً بالنظر إلى وزن النظام السياسي واستمراريته في كل أوروبا الغربية تقريباً. ولعل الأكثر درامية هو «الجبهة الوطنية» في فرنسا نظراً لتشابه قصتها مع مسرحية «الملك لير». وقد تجسدت هذه الدراما خلال الأسبوعين الأخيرين داخل عائلة مؤسس الحزب جان ماري لوبن، وتوزعت الأدوار الرئيسية فيها بين الأب المسن، وابنته مارين، وحفيدته ماريون ماريشال لوبن. ومن المعروف أن مارين كانت قد ترشحت لرئاسة فرنسا، مثلما فعل والدها خمس مرات من قبل. ولكن بينما هي تكافح لتحديث صورة الحزب وتلميعها، تجد نفسها في دور البنت العاقة التي تخالف والدها. وفي هذه الأثناء، تلعب ماريون ابنة الـ22 عاماً، النائبة في البرلمان، دور البنت الصالحة والبارة التي تنقذ الملك المسن. أما جان ماري لوبن نفسه، فقد أسس «الجبهة الوطنية» في 1972، وتبنى خطاباً معادياً للسامية وللهجرة وللسياسات الديجولية، ومعارضاً لما أصبح لاحقاً الاتحاد الأوروبي. وقد ترشح لرئاسة فرنسا خمس مرات، ولكنه لم يفلح في بلوغ الجولة الثانية من الانتخابات سوى مرة واحدة في 2002، عندما تقاعس الناخبون الاشتراكيون عن المشاركة بكثافة في الجولة الأولى من التصويت. ولكن في الجولة الثانية، حرص الجميع على التصويت، فمني لوبن بخسارة كبيرة، على غرار ما حدث له في كل السباقات الرئاسية التي شارك فيها. أما مارين فيحدوها طموح سياسي كبير. وقد تولت رئاسة الحزب في 2011 بينما أصبح والدها هو «الرئيس الفخري». وقد كانت تعتقد أنها في زمن استياء الناخبين، ستستطيع إعادة صنع الحزب والنجاح في الظفر بالرئاسة التي كانت عصية على والدها. ولهذا الغرض، صممت وأعلنت أنها تنوي نزع الطابع الشيطاني عن الحزب، جاعلة الحزب ينأى بنفسه عن الدفاع المستميت عن تصريحات والدها بأن معسكرات الإبادة زمن الحرب هي من «تفاصيل» التاريخ، وأن الاحتلال النازي لفرنسا «لم يكن منافياً للإنسانية تماماً»، وأن المارشال بيتان (الذي يُتهم بالخيانة) كان بطلاً، والجنرال ديجول كان خائناً لفرنسا! ولكن قبل نحو أسبوعين، تعدى جان ماري الحدود وكرر في مقابلة صحفية معه كل آرائه المثيرة للجدل حيث قال للصحافة البريطانية إن مارين «بورجوازية صغيرة» (فتاة من الطبقة المتوسطة) تسعى للتملق للمؤسسة الفرنسية وكسب ودها. وقال أيضاً إنها تفتقر للمصداقية والثقافة، ولـ«النضج السياسي والإنساني» لتولي الرئاسة. فردت الابنة بالقول إنها حوّلت «الجبهة الوطنية» إلى «حزب قابل لتولي الحكم»، في حين أن أباها كان مقبلاً على الانتحار السياسي وعاقداً العزم على تدمير الحزب الذي أسسه. وهددت بطرد والدها من الحزب. وفي هذه المرحلة، تدخلت ماريون، الحفيدة، ثم عمّ الصمت. وتخلى جان ماري عن نيته الترشح هذا العام في الدائرة البرلمانية، التي تمثلها ماريون. وبريطانيا أيضاً فيها حزبها اليميني المثير للجدل: «حزب الاستقلال» البريطاني بزعامة نايجل فراج. إنه، حزب يقوم على موضوع واحد، هو المطالبة بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقد هيمن الحزب على التغطية الإعلامية لحملات الانتخابات العامة المزمع إجراؤها في شهر مايو على نحو يفوق حجمه الحقيقي، وذلك على اعتبار أن أفضل ما يمكن أن يأمله في حكومة جديدة هو أن يكون شريكاً صغيراً فيها - وإن كان ذلك أيضاً احتمالًا بعيداً. ويُعتبر «حزب الاستقلال» البريطاني قوة رجعية تستمد قوتها من مهاجمة الأحزاب التاريخية الكبيرة للبلاد، والتنديد بها على خلفية المشاكل المترتبة على عضوية الاتحاد الأوروبي، بالنظر إلى حدوده المفتوحة وحرية تنقل المهاجرين بين بلدانه. ويحاجج الحزب على نحو غير مقنع بأن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يمكن أن يفتح الطريق أمام البلاد لاستعادة بعض من المكانة الدولية الكبيرة، التي كانت تتمتع بها قبل الحرب العالمية الثانية. ---------- كاتب ومحلل سياسي أميركي مقيم في فرنسا ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»