في اجتماع مغلق لممثلي الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية في مقرها بجنيف، أسفر التصويت يوم الثلاثاء الماضي عن فوز ساحق للمرشح الإثيوبي «تيدروس أدهانوم غبريسوس» لقيادة المنظمة في مواجهة المرشح البريطاني، ليصبح تيدروس أول أفريقي يشغل هذا المنصب. فمن هو تيدروس؟ وماذا يعني وجوده كمدير عام لمنظمة الصحة العالمية؟ «تيدروس أدهانوم غبريسوس» سياسي وأكاديمي وخبير إثيوبي في مجال الصحة العامة، سبق أن شغل حقيبة الصحة في حكومة بلاده، ثم حقيبة الخارجية التي تولاها حتى العام الماضي، قبل أن يصبح المدير العام الجديد المنتخب لمنظمة الصحة العالمية. ولد تيدروس عام 1965 في أسمرة، العاصمة الحالية لأريتيرا التي كانت وقتئذ جزءاً من إثيوبيا، لأسرة تعود جذورها إلى مقاطعة آغام في إقليم التيغراي بشمال إثيوبيا. وشاهد تيدروس في طفولته آثار الفقر في المجتمع، ولا يزال يتذكر الوفيات العديدة في محيطه العائلي جراء مرض الملاريا. وبعد أن أنهى دراسته الثانوية، التحق بكلية الأحياء في جامعة أسمرا وحصل منها على بكالوريوس في علوم الصحة عام 1986، ثم انضم في العام ذاته إلى وزارة الصحة كموظف في مجال الصحة العامة. وبعد سقوط نظام «منجيستو هايل مريم»، سافر تيدروس إلى بريطانيا لمتابعة دراساته العليا في مجال الصحة العامة، حيث حصل على درجة الماجستير في علم المناعة من الأمراض المعدية من كلية لندن للصحة والطب الاستوائي، ثم حصل (في عام 2000) على شهادة دكتوراه في الصحة المجتمعية من جامعة نوتنغهام، عن أطروحة حول «آثار السدود على انتقال الملاريا في منطقة تيغراي (شمال إثيوبيا).. وتدابير الرقابة المناسبة»، ليصبح باحثاً معترفاً به عالمياً في مجال الملاريا. وبعد عودته من بريطانيا، تم تعيينه في عام 2001 مديراً إقليمياً للصحة في تيغراي، وكان له دور في خفض معدل انتشار الإيدز في الإقليم بنسبة 22.3%، وفي خفض حالات التهاب السحايا بنسبة 68.5%، وفي رفع نسبة التحصين ضد الحصبة إلى 98%، كما أشرف على إدخال تكنولوجيا المعلومات إلى معظم مستشفيات وعيادات الإقليم وربطها بشبكة الإنترنت. وأصبح تيدروس في أواخر 2003 وزير دولة للصحة في حكومة ميليس زيناو، وبدأ يعكف على صياغة برنامج طموح للإصلاح الصحي في إثيوبيا، البرنامج الذي عمل على تطبيقه حين أصبح وزيراً للصحة في حكومة أخرى لزيناو عام 2005. ورغم التحديات العديدة، مثل الفقر، وضعف البنية التحتية، والوضع الاقتصادي العالمي.. كان تقدم المؤشرات الصحية في إثيوبيا مثيراً للإعجاب. فخلال تولي تيدروس حقيبة الصحة بين عامي 2005 و2012، قام بإصلاحات مبتكرة لمنظومة الصحية العامة، مما أدى إلى تحسن فرص الحصول على الخدمات الصحية؛ فتم توظيف وتدريب نحو 40 ألفاً من العاملات في مجال الإرشاد الصحي، وانخفضت وفيات الرضع من 123 حالة وفاة لكل ألف مولود حي في عام 2006 إلى 88 حالة وفاة في عام 2011، وازداد توظيف الكوادر الصحية بما فيها الأطباء والقابلات.. وهي جهود ونتائج ساهمت في انتخابه رئيساً للمجلس العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا في يوليو 2009. ومن المجال الصحي إلى المجال الدبلوماسي، أصبح تيدروس وزيراً للخارجية في الحكومة التي شكّلها رئيس الوزراء الإثيوبي هايله مريم ديساليغنه، عقب وفاة سلفه القوي ملس زيناوي في أغسطس 2012. وخلال نحو ثلاث سنوات أمضاها تيدروس وزيراً للخارجية، كان عليه إدارة الجانب الدبلوماسي لعدة ملفات شديدة الحساسية بالنسبة لإثيوبيا؛ مثل ملف احتجاجات أبناء قومية الأورومو المطالبين بتغيير السياسات العقارية وبمنح إقليمهم حق الإدارة الذاتية، وملف سد النهضة الذي تعتبره إثيوبيا أضخم مشروعاتها القومية للقرن الحادي والعشرين، لكنه أثار أزمة في العلاقات بين أديس أبابا والقاهرة. ورغم ذلك، استطاع تيدروس نسج خيوط علاقات قوية بالعديد من الجهات الدبلوماسية ومراكز صناعة القرار على مستوى أفريقيا والعالم، فقررت الدورة العادية السادسة والعشرون لجمعية الاتحاد الأفريقي، في يناير 2016، اختياره لقيادة منظمة الصحة العالمية كمرشح أفريقي وحيد لهذا المنصب، خلفاً للصينية «مارغريت شان» التي بقيت على رأس المنظمة طوال 10 سنوات. وبالفعل فقد دعمته الدول الأفريقية حين خاض المنافسة الانتخابية في مواجهة المرشحين البريطاني ديفيد نابارو والباكستانية سانيا نيشتار. ويوم الثلاثاء الماضي، عقد ممثلو الدول الـ194 الأعضاء في منظمة الصحة العالمية اجتماعاً مغلقاً لانتخاب مدير عام جديد للمنظمة، واستمعوا إلى كلمات من المرشحين. ثم بدأ التصويت الإلكتروني داخل القاعة، فأدت نتائج الجولة الأولى إلى خروج المرشحة الباكستانية من السباق، بينما حصل المرشح البريطاني في الجولة الثانية على 50 صوتاً، مقابل 133 صوتاً لصالح الدكتور تيدروس أدهانوم الذي أصبح بذلك أول أفريقي يتولى إدارة منظمة الصحة العالمية. ومنظمة الصحّة العالمية وكالة تابعة للأمم المتحدة متخصصة في مجال الصحة، يقع مقرها في جنيف ويبلغ عدد موظفيها نحو 4 آلاف موظف بينهم 1500 إداري، أما ميزانيتها التي يتم تحديدها كل سنتين فتبلغ نحو 3.5 مليار دولار، كما تتبع لها ستة مكاتب إقليمية تغطي 193 بلداً حول العالم. وتؤدي المنظمة دوراً قيادياً في معالجة المسائل الصحية العالمية، وفي تصميم برامج البحوث الصحية ووضع القواعد والمعايير وتوضيح الخيارات المسندة بالأدلة وتوفير الدعم التقني للبلدان المحتاجة، كما تساهم في رصد الاتجاهات الصحية وتقييمها، وفي تنسق جهود التصدي للأوبئة ومحاربتها. وخلال رئاسة المديرة العامة المنصرفة «شان»، واجهت المنظمة اتهامات بإساءة تقدير خطورة أزمة وباء «إيبولا» الذي انتشر في غرب أفريقيا بين عامي 2013 و2016، وأدى إلى وفاة أكثر من 11 ألف شخص في كل من غينيا وليبيريا وسيراليون. ورغم أن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية لا يتجاوز كونه السكرتير التنفيذي للجمعية العامة للمنظمة التي تجتمع مرتين سنوياً لاتخاذ القرارات واعتماد السياسات، فإنه يتمتع بمجال جيد للتحرك ولديه الإمكانية لاقتراح الأفكار وخطط العمل والسياسات. وربما يتفوق تيدروس على المديرين العامين الثمانية الذين سبقوه لقيادة المنظمة منذ إنشائها عام 1948، بقدرته على فهم المشكلات الصحية في الدول النامية، وعلى بلورة خطط لمواجهة هذه المشكلات ولإصلاح منظومة الرعاية العلاجية في كثير من الدول النامية المحتاجة. محمد ولد المنى