على الرغم من السلبيات والنقائص التي صحبت الانتخابات العراقية، إلا أنها تحمل أخباراً في غاية الأهمية. ولا شك أن أي شعب من الشعوب، يجني الكثير من توجهه إلى صناديق الاقتراع، بدلاً من حمل البندقية لتسوية خلافاته، وكذلك يجني الثمار ذاتها، العالم بأسره. وإذا كان ما يزيد على 60 في المئة من الناخبين الذين يحق لهم الإدلاء بأصواتهم، قد شاركوا فعلاً في الانتخابات التي جرت مؤخراً، فإن ذلك يعد دليلاً ما بعده دليل، على مدى شجاعة البشر على مجابهة أحلك الظروف، والتعبير عن إرادتهم، بالنظر إلى الملابسات المروعة التي أحاطت بالعملية الانتخابية برمتها. كما تبدو الانتخابات من الناحية الأخرى، وبالاً على أولئك الذين يروجون لسموم الإرهاب الأصولي والعنف العدمي الذي لا يعرف سوى لغة القتل وسفك الدماء. ولكن الاختبار الذي يتعرض له العراق الآن، هو ما إذا كانت الانتخابات أداة رافعة لإرادة الشعوب حقاً، أم أنها مجرد إجراء رمزي شكلي فقط؟.
إن من الصعوبة بمكان، أن نتخيل المدى الذي تستطيع أن تنسجم فيه الأحزاب الشيعية والكردية مع بعضها بعضاً. والى أي مدى يمكن أن تقل التوترات بينها، خاصة في ظل مقاطعة مجموعات واسعة من المسلمين السنة لهذه الانتخابات، مع العلم بأن هذه الفئات التي تمثل الأقلية في البلاد، هي التي مارست إقصاء الآخرين والهيمنة على مقاليد الحكم، على امتداد عدة حقب خلت. ومع كل هذه الملابسات والصعوبات، فمما لا شك فيه أن العراق سيكون قد اقترب كثيراً من أن يكون تلك الدولة الشرعية المستقرة، فيما لو تمكنت الحكومة المؤقتة المنتخبة، من تعزيز الديمقراطية، وتسخيرها أداة لخدمة الصالح العام، وصون حقوق كافة العراقيين، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والسياسية. لكن سيكون من السذاجة بمكان أيضاً، الافتراض أن الأجندة التي ستتبناها الحكومة المنتخبة، ستنسجم وتتوافق دون صعوبات واحتكاكات ومواجهات، مع أجندة القوات المحتلة، أو أن الحكومة المنتخبة، ستفعل لوحدها، ما يؤدي إلى تقويض التمرد القائم حالياً، وإلحاق الهزيمة الساحقة به.
وحتى هذه اللحظة، تشير التقارير والأخبار غير الرسمية الواردة عن نتائج الانتخابات العراقية، إلى أن "التحالف العراقي الموحد" الذي رعاه آية الله العظمى علي السيستاني، قد حصد العدد الأكبر من أصوات الناخبين. وإذا ما صح ذلك، فإنه سوف يعزز موقف هذا الزعيم الديني السياسي المدعوم من قبل طهران، مع العلم بأنه كان من أشد القادة العراقيين تمسكاً بتحديد الجدول الزمني للانسحاب المتوقع للقوات الأميركية من العراق، في أقرب وقت ممكن.
وبالاستناد إلى نتائج استطلاعات الرأي المعلنة قبل يومين من إجراء الانتخابات العراقية، عبر قناة تلفزيون أبوظبي –وهي استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة زغبي العالمية لاستطلاعات الرأي- فمما لا شك فيه أن هذا الموقف للزعيم الديني السياسي علي السيستاني، يعبر عن الرأي العام العراقي، في هذه المسألة. ذلك أن نتائج الاستطلاع المذكور، أشارت إلى أن نسبة حوالي 82 في المئة من المسلمين السنة، و69 في المئة من المسلمين الشيعة، ترغب في مغادرة القوات الأميركية لأراضي العراق، فور الفراغ من انتخاب الحكومة العراقية، أو بعد ذلك مباشرة.
ومع أنه يصعب على المرء أن يقدر السرعة التي يمكن بها تحقيق هذا المطلب عملياً، إلا أن النتائج التي ستسفر عنها الحملة الانتخابية، تعد بحد ذاتها، انتصاراً لا يمكن التقليل من شأنه، لتمسك العراقيين بحق تقرير المصير، وليس الخنوع لسلطة وإرادة الاحتلال. ولكي لا نضلل أنفسنا، فإن الفوز الساحق لقائمة السيستاني، لن يحمل أخباراً سارة لدوائر المحافظين الجدد في واشنطن، لا سيما فيما يتصل بتصورات هذه الدوائر المبكرة عن عراق أكثر طواعية ومرونة، بحيث يمكن تقديمه نموذجاً لإعادة تشكيل خريطة منطقة الشرق الأوسط، كما يراها المحافظون الجدد من هناك.
وعلى رغم كل التطورات السياسية التي صحبت العملية الانتخابية، إلا أنه لابد من الاعتراف بأن إدارة بوش قد أصابت في تمسكها بالموعد المضروب لإجراء الانتخابات، بالنظر إلى حقيقة أن التمرد ما كان له أن ينحسر مطلقاً، طالما أن وقوده الأساسي هو وجود قوات الاحتلال في العراق. ولكن ليس مستبعداً أن تنقلب هذه اللحظة الذهبية إلى نقمة ووبال عليه، فيما لو كانت مجرد مساومة ومجاراة للرغبة الجامحة لدى العراقيين في تقرير المصير، وتولي زمام أمورهم بأنفسهم. فلابد للولايات المتحدة الأميركية من أن تظهر حسن وصدق نواياها تجاه مستقبل العراق ومصير مواطنيه، في هذه اللحظة بالذات. وليس أضر بهذه النوايا، وأكثر إثارة للشكوك حولها، مما أذاعته الـ"بي. بي. سي" في نهاية الأسبوع الماضي، من أن مدققي الحسابات الأميركيين –وليس غيرهم- هم من توصل إلى حقيقة صاعقة، تقول إن مجمل عائدات النفط العراقي، التي جرى تحصيلها منذ ما بعد الغزو مباشرة، لا تزيد قيمتها على 8.8 مليار دولار!.
ولما كان العراقيون قد خاطروا بأرواحهم في سبيل الديمقراطية