في خطابه في منتصف أغسطس المنصرم بمناسبة الذكرى الثالثة والسبعين لتحرير كوريا من الاستعمار الياباني سنة 1945، أعلن الرئيس الكوري الجنوبي «مون جاي إن» أنه سيعقد قمة جديدة مع نظيره الشمالي «كيم جونج أون» في بيونج يانج خلال سبتمبر الجاري، وأنه يتمنى أن تشكل القمة فرصة لإطلاق مبادرة جريئة لإعلان انتهاء الحرب بين الكوريتين رسمياً وتوقيع معاهدة سلام شاملة.
والحقيقة أن «مون جاي إن» يحاول بشتى الوسائل أن يحافظ على زخم ما أفرزته القمة الأميركية- الكورية الشمالية في سنغافورة في يونيو المنصرم من نتائج لجهة تحقيق سلام دائم في شبه الجزيرة الكورية، بدليل أنه ذهب ولا يتردد في الذهاب مجدداً إلى بيونج يانج للقاء نظيره الشمالي، دونما اكتراث بما يتهمه به قادة الشطر الشمالي من أنه تابع لواشنطن، ولا يستطيع الالتزام بشيء مستقلا ًعن الإرادة الأميركية لأن بلاده «مجرد دمية أميركية»، ودون أن يشترط مجيء نظيره الشمالي إلى سيؤول، وهو ما يبدو أن «كيم جونج أون» يتحاشاه لأسباب عديدة قد يكون منها خوفه من الاغتيال على يد أحد المتطرفين أو المنفيين، أو حساسيته من مظاهرات قد تسيء إلى فخامته، أو لأن الهبوط في عاصمة كوريا الجنوبية يعني اعتراف بلاده ضمنياً بوجود كوريا أخرى غير كوريته، أو لأنه يريد ثمناً مجزياً في صورة تنازلات قبل أن يوافق على عقد قمة مع نظيره في سيؤول، أو لأنه يريد أن يوحي لشعبه أنه الزعيم الذي يأتي الآخرون لزيارته دون أن يرد لهم الزيارة بسبب فارق المقام. والجدير بالذكر في هذا السياق أن كوريين جنوبيين كثر انتقدوا رئيسهم الأسبق «كيم داي جونج» حينما حل في بيونج يانج في عام 2002 لعقد قمة مع نظيره الشمالي آنذاك «كيم جونج إيل»، واتهموه بأن تصرفه ذلك يعني الاعتراف بما يسمى «جمهورية كوريا الشمالية الديمقراطية الشعبية»، علما بأن الرئيس الحالي «مون جاي إن» بات يتعرض للانتقادات نفسها وللأسباب ذاتها.
بكلام آخر يتبّع الزعيم الكوري الجنوبي سياسة الباب المفتوح مع بيونج يانج طالما أن شبح الحرب في المنطقة قد تراجع كثيراً، وحل مكانه نوع من التفاؤل بمستقبل أكثر أماناً وإشراقاً، محاولاً قدر الإمكان بناء جسور من الثقة، التي من غيرها لا يمكن التقدم خطوة إلى الأمام.
والحقيقة أن هذه السياسة هي التي أثمرت مؤخراً عن عدد من الاتفاقات والتفاهمات المهمة بين شطري كوريا مثل المشاركة بفريق واحد في الألعاب الآسيوية بالعاصمة الإندونيسية جاكرتا، أي على غرار مشاركتهما تحت علم واحد في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي استضافتها كوريا الجنوبية في فبراير 2018، وتنفيذ مشروع مشترك لمد خط للسكك الحديدية بين البلدين، وتنفيذ مشاريع مشتركة في مجال الأحراش والغابات، وإقامة مكتب اتصال كوري جنوبي في كوريا الشمالية شمال المنطقة منزوعة السلاح الفاصلة بين البلدين، علاوة على وضع تخطيط أفضل وأسرع لعملية اجتماع العائلات التي فرقت الحرب الكورية بينها وشتتها منذ 65 عاماً. وهذه الاجتماعات لئن بدأت منذ عام 2000، فإنها توقفت منذ ثلاث سنوات بسبب توتر علاقات البلدين الثنائية، لكنها استؤنفت في أغسطس المنصرم باجتماع في منتجع «كومغانج» الجبلي الكوري الشمالي، الأمر الذي أسعد كوريين كثراً ممن خافوا أن يموتوا دون رؤية أحبتهم في الشطر الآخر.
كل هذا قد يخلق أجواء من الثقة بين قادة شطري كوريا ويبعد الشكوك المتراكمة منذ عقود من الزمن، وبالتالي يتيح لسيؤول أن تلعب دور الوسيط بين بيونج يانج وواشنطن للخروج بأشياء إضافية غير ما تم تنفيذه حتى الآن (تخلص بيونج يانج من جزء من قدراتها النووية، وإعادة رفات الجنود الأميركيين من ضحايا الحرب الكورية، وإيقاف المناورات العسكرية الأميركية الكورية الجنوبية). كما أن مثل هذه الأجواء قد تساعد بطريقة أفضل على حلحلة بعض الأزمات والعقد التي تطفو على السطح من وقت إلى آخر، ولاسيما عقدة الشرط الأميركي بضرورة تقديم كوريا الشمالية لائحة مفصلة بمنشآتها النووية والتخلص الكامل منها قبل الاستجابة لمطالبها بإعلان يُنهي الحرب الكورية رسمياً، وقرار يُرفع عنها كافة العقوبات الدولية المفروضة عليها، علما بأن كل هذه المسائل يجري التفاوض حولها بين مسؤولين كوريين شماليين ومسؤولين أميركيين بمساعدة سيؤول من خلف الكواليس و«تحقق تقدماً وتسير في الاتجاه الصحيح بنية حسنة» بحسب الناطقة باسم الخارجية الأميركية هيذر ناورت.
وبطبيعة الحال، فإنه من السابق لأوانه في هذا التوقيت الحديث عن إعادة توحيد كوريا المجزأة والمحكومة بنظامين على طرفي نقيض، وهذا ما يعترف به الرئيس الجنوبي «مون جاي إن»، لكنه، في الوقت نفسه، ُيمني النفس بحدوث انفراجات مع مرور الزمن تتيح قدراً أكبر من التواصل والتفاهم والتعاون، ولاسيما لجهة انتشال بلاده لجارتها من الحضيض الذي وصلت إليه بفعل نظامها الستاليني المغرم بالمغامرات وعسكرة المجتمع. فكوريا الجنوبية بقدراتها الاقتصادية الهائلة، وطاقات شركاتها العملاقة، وتقدمها في شتى مجالات العلوم والمعرفة، قادرة على فعل الكثير، ولا ينقصها للشروع في ذلك سوى توقيع معاهدة سلام دائمة مع بيونج يانج عقب موافقة الأخيرة على إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية والباليستية بصفة شاملة ومؤكدة.