محمد المنى (أبوظبي)
تمثل الانتخابات الرئاسية التي تشهدها نيجيريا اليوم السبت، اختباراً آخر لأكبر بلد أفريقي من حيث عدد السكان وحجم الاقتصاد، لاسيما بعد أعمال العنف التي عرفتها الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية، وأسفرت عن سقوط قتلى وجرحى، وبعد أن تم تأجيل الاقتراع أسبوعاً بداعي «الحرص على نزاهته». وفي هذه الانتخابات التي يتنافس فيها 72 مرشحاً على رئاسة نيجيريا، أبرزهم الرئيس المنتهية ولايته محمدو بخاري وزعيم المعارضة عتيقو أبوبكر، ويتجه نحو 84 مليون مسجل على لوائحها الانتخابية إلى مكاتب الاقتراع البالغ عددها 120 ألف مكتب، تمثل قضيتا النمو الاقتصادي والحكم الرشيد، أهم محورين لوعود المتنافسين وبرامجهما الانتخابية.
وكانت الانتخابات الرئاسية السابقة، والتي جرت عام 2015 وجاءت نتائجها بمرشح من خارج السلطة إلى كرسي الحكم لأول مرة في نيجيريا، هو الرئيس الحالي محمدو بخاري، قد مثّلت مؤشراً على تقدم ملحوظ حققته التجربة «الديمقراطية» في نيجريا خلال الأعوام الماضية، وتحديداً منذ عودة الحكم المدني فيها أواخر التسعينيات، وما تم من جهد لإكساب العملية السياسية جدية ومصداقية ونزاهة خلال الأعوام التالية.
معضلة الاندماج
وقد واجه الرئيس بخاري، كبقية أسلافه من الرؤساء النيجيريين، نفس المشكلات المزمنة التي تعاني منها نيجيريا منذ عقود، مثل ضعف الاندماج الوطني، وتفشي ظاهرة الفساد العمومي، وارتفاع معدلات الزيادة السكانية بما يشكل ضغطاً على اقتصاد البلاد ومواردها الطبيعية. ولعل معضلة نيجيريا الأكبر والأخطر منذ وقت طويل، والتي لم تستطع تخطيها منذ نيلها الاستقلال عن بريطانيا عام 1960، هي العجز عن بلورة هوية وطنية نيجيرية جامعة قادرة على استيعاب وصهر الهويات والانتماءات الفرعية (الإثنية والدينية واللغوية) في بوتقة قومية واحدة، إذ توجد في البلاد أكثر من 500 جماعة عرقية، فيما ينقسم السكان دينياً بالمناصفة بين المسيحيين (في الجنوب والوسط) والمسلمين (في الشمال والجنوب الغربي)، الأمر الذي شكل على الدوام بيئة لحدوث احتكاكات عنيفة بين المكونات المختلفة في البلاد، وما يترتب على ذلك من فاقد اقتصادي وأمني عطّل وآخّر حركة التنمية وسدّ مساراتها.. بدءاً من الحرب الأهلية في الإقليم الشرقي عقب إعلانه قيام «دولة بيافرا» عام 1967، حيث استمرت أعمال القتال ثلاثة أعوام، وصولا إلى التمرد المندلع منذ عدة أعوام في دلتا النيجر، ومن بعده ظهور جماعة «بوكو حرام» الإرهابية. وفي ظل الانقسامات الإثنية والمناطقية بين مكونات المجتمع النيجيري، مما لم تفلح الحكومات المتعاقبة في معالجته، حافظت أكبر ثلاث مجموعات عرقية في نيجيريا (الهوسا واليوروبا والإيبو) على نفوذها التاريخي في السياسة النيجيرية، وأدت المنافسة الدائمة بينها إلى تغذية الفساد في أوساط النخب السياسية والبيروقراطية.
انقلابات «الوجه الديمقراطي»
وقد واجه الرئيس بخاري خلال السنوات الأربع الماضية (ولايته الرئاسية الأولى)، كل المشكلات التقليدية لكيان الدولة النيجيرية، مضافاً إليها تمرد «بوكو حرام»، وقبلها تمرد دلتا النيجر. وكان المتوقع أن تسعفه خبراته السابقة في معالجة هذه المشكلات، وكذلك موقعه على الخارطة العرقية والإقليمية للبلاد، كونه ينحدر من مدينة «كاتسينا» بالشمال وينتمي لعرقية الهوسا المسلمة، أكبر عرقية في نيجيريا (25 في المئة من مجموع السكان)، تليها عرقيتا اليوروبا والإيبو.
ورغم أن بخاري أصبح أحد الوجوه البارزة للمعارضة المدنية الديمقراطية منذ نهاية التسعينيات، فإن له تاريخاً من الانقلابات العسكرية ضد الديمقراطية، علاوة على إخفاقات في إدارة اقتصاد البلاد حين كان حاكمها العسكري. فقد شارك في أول انقلاب عسكري عرفته نيجيريا بقيادة الكولونيل مورتالا محمد عام 1966، الانقلاب الذي أنهى ست سنوات من الديمقراطية في البلاد عقب إعلان استقلالها عن بريطانيا.
وبعد عودة العسكريين إلى ثكناتهم واسترداد الحكم المدني عبر انتخابات عام 1979، أصبح بخاري آمراً للواء الدروع، فقام بإطاحة الرئيس المنتخب ديمقراطياً «شيخو شاجاري» عام 1983، منهياً الجمهورية الثانية في نيجيريا وتجربتها التي لم تعمَّر طويلًا. ومن موقعه كحاكم عسكري، حاول إصلاح الاقتصاد، وتشجيع التصنيع والزراعة، ودعم التنمية الوطنية، كما اهتم بضبط المالية العامة. لكن سياسته تسببت في خسارة كثير من الوظائف وفي إغلاق الأعمال، وفي أزمة غذائية حادة عام 1984 -1985 حاول حلها بطرد مليون مواطن من النيجر ألجأهم الجفاف الذي ضرب بلادهم إلى نيجيريا المجاورة، مما أدى لمجاعة كبرى في النيجر عرفت لاحقاً باسم «مجاعة بخاري».
لكن تمت الإطاحة ببخاري عام 1985 في انقلاب عسكري بقيادة رفيقه الجنرال إبراهيم بابانجيدا وبعض أعضاء المجلس العسكري الأعلى الحاكم، مبرِّرين الانقلابَ بالقول إن بخاري فشل في حل المشكلات وفي تنفيذ وعوده، وعلى رأسها إنعاش الاقتصاد الذي دمرته عقود من الفساد وسوء الإدارة. وبعد مغادرته السجن عام 1988، وعودة الحكم المدني في نيجيريا عام 1999، دخل بخاري الحياة السياسية والحزبية ليخوض كل الانتخابات الرئاسية اللاحقة، حيث واجه في عام 2003 رفيق سلاحه السابق أوباسانجو، ثم أعاد الكرّة في 2006 ضد ابن مدينته ومرشح أوباسانجو، «عمر يارادوا» الذي سيتوفاه الموت أثناء فترته الرئاسية. وجرّب بخاري حظه للمرة الثالثة في عام 2011، فمني بالهزيمة أمام الرئيس بالإنابة والمرشح جودلاك جوناثان، قبل أن يهزمه أخيراً في عام 2015، ليصبح أول معارض يفوز بالانتخابات الرئاسية في تاريخ نيجيريا كله.
الديموغرافيا وسياسات التدخل
وخلال مأموريته الرئاسية المنتهية، زاوج بخاري بين القبضتين الحديدية والناعمة في تعامله مع كثير من مشكلات البلاد، ونجح إلى حد كبير في إضعاف تمرد دلتا النيجر وتحويله إلى مجرد مطالبات أهلية تتعلق بتوفير بعض الخدمات ومنشآت البنية التحتية في مناطقهم. كما حاصر جماعة «بوكو حرام» في مناطق محددة وقلص عملياتها، ودفع بتعزيزات أمنية لملء الفراغات التي كانت تنشط فيها الجماعة الإرهابية، مع محاورتها ومفاوضتها أحياناً.
ولئن بدا أداء إدارة الرئيس بخاري في المجال الاقتصادي ضعيفاً في عامه الأول، فإن المؤشرات الأساسية للاقتصاد النيجيري أخذت في التحسن بدءاً من عام 2017، حيث أصبحت نيجيريا أكبر اقتصاد في أفريقيا (متخطيةً جنوب أفريقيا) بناتج محلي إجمالي يصل 400 مليار دولار، يساهم القطاع الصناعي فيه بنسبة 26%، والقطاع الزراعي بنسبة 18%. ورغم ذلك ظل نحو 87 مليوناً من سكان نيجيريا البالغ عددهم 190 مليون نسمة، يعيشون تحت خط الفقر، في مجتمع تضاعف عدد سكانه أربع مرات خلال خمسين سنة الماضية، وينتمي 80% منه إلى فئة الشباب، أي مَن تقل أعمارهم عن 40 عاماً. وحاول بخاري التخفيف من حدة المعضلة الديموغرافية في نيجيريا من خلال سياسة اقتصادية ذات طابع تدخلي متزايد، لاسيما بواسطة التحكم في السياسات النقدية للبنك المركزي وتحديد أسعار الصرف، والتضييق على الاستيراد، وإطلاق برنامج للقروض الصغيرة، والتحول نحو مزيد من تأميم الخدمات الأساسية. لكن السياسات الاقتصادية التدخلية لبخاري كانت السبب الرئيسي وراء أكبر كساد اقتصادي تشهده نيجيريا منذ 25 عاماً، كما يرى منافسه في انتخابات اليوم عتيقو أبوبكر رئيس ومرشح «حزب الشعب الديمقراطي» المعارض، والذي يؤكد أيضاً على فشل بخاري في التغلب على انقطاعات الكهرباء ونقص إمدادات الوقود في أكبر بلد أفريقي منتج للبترول. هذا علاوة على إخفاقه في إنهاء التهديدات الأمنية (لاسيما التمرد المسلح لبوكو حرام)، وإدارته غير الناجحة لملف العنف الطائفي بين الرحل والمزارعين، وما شهده عهده من تجدد للمشاعر الانفصالية في أنحاء البلاد.
رجل الأعمال وسمعة الحزب
وقد فاز أبوبكر بترشيح حزبه في انتخابات داخلية في سبتمبر الماضي، وهو نائب رئيس سابق، وسبق أن خاض الانتخابات الرئاسية أربع مرات. وقد أراد الحزب بترشيحه، وهو المنحدر من الشمال المسلم (شأنه شأن بخاري)، أن يساهم في تفتيت الأصوات التي فاز بها بخاري في السباق الرئاسي السابق حين كان يواجه مرشح «حزب الشعب الديمقراطي» جودلاك جوناثان القادم من الجنوب ذي الغالبية المسيحية.
ورغم أن أبوبكر يعد بإخراج نيجيريا من الكساد الاقتصادي و«إعادتها إلى العمل»، فإنه يواجه مشكلتين تقللان من حظوظه في الفوز بالانتخابات، أولاهما نظرة النيجيريين إليه كرجل أعمال ثري مقرب من عالم المال والأعمال ومهتم أكثر من اللازم بإدخال السياسات الليبرالية الجديدة وبتشجيع القطاع الخاص الرأسمالي الضخم. وثانيتهما السمعة السيئة لحزبه وتهم الفساد وعدم الكفاءة التي ظلت تلاحقه بعد أن أدت إلى إطاحته من السلطة. فقد حكم نيجيريا منذ نهاية الحكم العسكري فيها عام 1999 حتى هزيمته في انتخابات عام 2015 تاركاً وراءه أكثر المشكلات التي يقول بخاري إنها تستنزف الجزء الأكبر من طاقة حكومته وجهدها. وهكذا تمثل الصورة السائدة حول أبوبكر وتجربة حزبه في السلطة، عاملا قوياً لصالح الرئيس المنتهية ولايته، لذلك ليس من المتوقع لمرشح المعارضة أن يفوز بغالبية أصوات المقترعين النيجيريين في انتخابات اليوم.
التأجيل والتقييم
وقد أثار قرار اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات تأجيل الاقتراع الرئاسي أسبوعاً، وقبل ساعات من الموعد المقرر لفتح مراكز الاقتراع السبت الماضي، أسئلةً كثيرةً في أجواء تطبعها الشكوك وعدم الثقة. ورغم أن اللجنة بررت التأجيل بفقدان عدد من بطاقات الاقتراع يتعين العثور عليها، منعاً لاستخدامها في أي غش أو تزوير، وأن مثل هذا التأجيل عرفته انتخابات عامي 2011 و2015، فإنه يقلل من نضج التجربة الديمقراطية النيجيرية ومن تقييمها في سلم التجارب الأفريقية المشابهة.
وكما هو الحال في ديمقراطيات العالم النامي ككل، كثيراً ما يتم في نيجيريا تبادل الاتهامات بين سلطة ترمي المعارضة بالسعي لإثارة الفوضى بغية تخريب العملية الانتخابية، ومعارضة تتهم السلطة ومرشحها بالسعي إلى التلاعب بنتائج الاقتراع وتحويرها لصالحهم. ورغم كل المشكلات والنقائص الكثيرة في التجربة النيجيرية، فثمة الآن قناعة لدى الطيف الأوسع من النخبة في نيجيريا، بأهمية الحكم الرشيد كعامل ضامن لإيجاد حل مستديم للصراعات والاضطرابات في البلاد، ولنجاحها كقوة اقتصادية فاعلة. فالحكم الرشيد ضروري لاستقرار نيجيريا ولنموها الاقتصادي، ويظل الأمران مترابطين بلا انفكاك وسؤالاهما سؤالا واحدا، هو نفسه يتكرر منذ عقود.
ديمقراطية الجنرالات المتقاعدين
اللافت في نيجيريا أنها تجاوزت ثنائية «مدني -عسكري»، الثقيلة والمزمنة في كثير من دول القارة الأفريقية، إذ بعد عودة الحكم المدني فيها عامَ 1999، كان أول رئيس منتخب لها هو الجنرال المتقاعد والحاكم العسكري السابق (بين عامي 1976 و1979) أوباسانجو، لكنه جاء إلى الرئاسة قادماً من الشارع وعبر الصندوق الانتخابي، ولم يأت إليها قادماً من الثكنة العسكرية أو على ظهر دبابة، بل بعد 20 عاماً من مغادرته الحكم وتقاعده نهائياً من الجيش. ثم حكم من بعده مدنيان (يارادوا وجوناثان)، قبل أن يأتي جنرال متقاعد وحاكم عسكري سابق آخر هو بخاري، وقد جاء قادماً من صفوف المعارضة، وقبلها قادماً من زنزانته في السجن.