صلاح الحفناوي:
ذكاء الطفل، توازنه النفسي، سلوكه المستقبلي، ملامح شخصيته··· تبدأ في التشكل قبل أن يرى النور بالفعل، تبدأ أثناء فترة التكوين داخل الرحم، وتتأثر ليس فقط بعوامل الوراثة والجينات التي يكتسبها من الأم والأب، ولكن أيضا بحالة الأم النفسية والصحية أثناء الحمل، وبنوع الغذاء الذي تتناوله وبالعلاقة الخاصة جدا التي تربطها بجنينها، بل وأيضا بالأجواء الخارجية المحيطة بالأم وبجنينها·
الدراسات العديدة التي تناولت العلاقة بين المستقبل الصحي والسلوكي والنفسي للطفل وبين حالة الأم أثناء الحمل انتهت إلى توصية تبدو بالنسبة للكثيرين شديدة الغرابة، وهي أن تحرص السيدة الحامل على أن تربت على جنينها وان تتحدث إليه ولا مانع من أن تسمعه موسيقى هادئة وكلمات حانية كل يوم وبشكل منتظم، فالجنين يتأثر بالأجواء المحيطة·
وفي تجربة طريفة، تم توجيه مجموعة من السيدات الحوامل إلى سماع مقطوعات موسيقية هادئة معينة بشكل منتظم وبمعدل لا يقل عن نصف ساعة يوميا، وبعد الولادة لوحظ أن أطفال هؤلاء السيدات كانوا يتوقفون عن البكاء ويخلدون إلى نوم عميق بمجرد سماع المقطوعات الموسيقية التي كانت أمهاتهم يسمعنها خلال فترة الحمل دون غيرها·
نفس المعنى أكده الأستاذ الدكتور محمد خليل وفا، أستاذ أمراض النساء والتوليد والعقم ومدير مركز مساعدة الإخصاب وأطفال الأنابيب بمستشفى النور، عندما سألته عن أهم نصيحة يقدمها إلى كل سيدة تخوض تجربة الحمل لأول مرة، فأكد أن أهم نصيحة يوجهها لكل سيدة حامل سواء لأول مرة أو لأي عدد من المرات، ولزوجها أيضا، بل للزوج أولا، هي أن تتجنب السيدة الحامل أي عامل يؤثر على توازنها النفسي، أن تتجنب القلق والتوتر والغضب والانفعال السلبي الشديد، لأن حالتها النفسية تؤثر بشكل يفوق التصور على سلامة الجنين وعلى تكوينه ومعدلات نموه· ومهمة الزوج هنا هي أن يهيئ لزوجته كل عوامل الهدوء النفسي ويجنبها الخلافات والمشاكل التي يمكن أن تثير انفعالاتها، فمن الخطأ أن نعتقد أن الجنين لا يشعر ولا يتأثر بما تتعرض له الأم من مشاكل صحية أو نفسية· والحمل تجربة أو حدث شديد الأهمية، ومن حق السيدة الحامل أن تحصل على كل أشكال الرعاية والدعم النفسي والصحي حتى يخرج جنينها سليما صحيحا·
الدكتور محمد خليل وفا قال إن المشكلة تكمن في التصور الشائع بان الأمراض التي يمكن أن تتعرض لها السيدة الحامل أثناء الحمل كالحصبة الألمانية أو بعض الأمراض الفيروسية الأخرى هي وحدها التي يمكن أن تؤثر على سلامة الجنين، أو أن المطلوب فقط أثناء الحمل هو تجنب تناول أي نوع من الدواء دون استشارة الطبيب، مع الاهتمام بالتغذية وعدم بذل مجهود شاق إلا في الحدود التي يقررها الطبيب المتابع للحمل، بالإضافة إلى ملاحظة أي تغييرات أو أعراض طارئة خلال شهور الحمل مثل الشعور بآلام كتلك التي تشعر بها السيدات أثناء الدورة الشهرية أو حدوث نزف ولو بسيط أو ظهور افرازات غير عادية، وعلى الرغم من أهمية كل ذلك إلا انه ليس كل شيء، لأننا نغفل في الغالب العامل النفسي وننسى أو لا نعرف أن الصفاء النفسي من أهم ما يجب أن تحرص عليه السيدة الحامل وزوجها أيضا·
هرمونات ومشاعر
هذه الحقائق أكدتها العديد من الدراسات والأبحاث العلمية التي تناولت تأثير الحالة النفسية للسيدة الحامل على الجنين· وتشير نتائج الدراسات إلى أن الاكتئاب المزمن أثناء الحمل يمكن أن يؤدي إلى ظهور مواليد يعانون من اضطرابات سلوكية غير طبيعية، أي أن الجنوح أو الانحراف السلوكي للطفل يستمد جذوره في الكثير من الحالات من الحالة النفسية للام أثناء الحمل·
والمعروف أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب يعانون من ارتفاع ملحوظ في مستوى هرمون الكورتيزول في دمائهم، وهذا يعني أن الاكتئاب يمكن أن يصيب المواليد، لأن مستوى هذا الهرمون من الممكن أن يتركز في دماء الأجنة عبر مشيمة الأم· والتجارب التي أجراها الباحثون تشير إلى أن مستوى الكورتيزول في دماء الأجنة والأطفال حديثي الولادة يتأثر بمستوى هذا الهرمون في دماء الأمهات مما يستدعي المتابعة الدقيقة للحالة النفسية للأمهات الحوامل·
وترى الباحثة الدكتورة نانس جونز، رئيسة فريق البحث من جامعة أطلانتا بولاية فلوريدا الأميركية، أن فحص مجموعة من المواليد لا تزيد أعمارهم على يومين والذين وُلِدوا لأمهات يعانين من اكتئاب مزمن، أثبت أن نشاط المخ وتحديدًا الجزء الأيمن منه ـ وهو الجزء المسؤول عن المشاعر السلبية ـ قد زاد بصورة غير عادية مقارنة بغيرهم من الأطفال الطبيعيين· وجاءت استجابة هؤلاء المواليد لما يعرف باختبار التحليل السلوكي للمواليد الجدد كانت بطيئة للغاية، وهذا الاختبار عبارة عن تحليل سلوكي يشتمل على تسجيل تعبيرات الوجه والاستجابة للمؤثرات الصوتية·
وتشير نانسي جونز إلى أن الاضطراب السلوكي لم يكن الشيء الوحيد الظاهر للعيان عند فحص هؤلاء المواليد، بل وجد أيضا أنهم يعانون من اضطرابات في النوم، حيث وجد أن هؤلاء الأطفال يعانون من اضطرابات شديدة في مراحل النوم المختلفة، مقارنة بالأطفال الذين ولدوا لأمهات لا يعانين من الاكتئاب النفسي ومن المعروف أن الاضطراب الشديد في التحول أثناء النوم هو أحد العوامل التي تحدد مُعامل الذكاء عند الأطفال، كما تقول ستيفاني فيلر من جامعة نوفا الأميركية، والذي دفع ستيفاني لإجراء دراستها عن تأثير الحمل على الأجنة هو ملاحظة أن معظم الأطفال الذين ولدوا لأمهات يعانين من الاكتئاب كانوا قد ولدوا في الشهر السابع أو الثامن من الحمل، أي أن الاكتئاب والتوتر النفسي والانفعالات السلبية تؤدي إلى ولادة أطفال مبتسرين أو ناقصي النمو·
وفي دراسة أخرى قامت بها ماريا هرناندز - من جامعة ميامي الأميركية ـ لمعرفة ما إذا كان المواليد لأمهات يعانين من الاكتئاب المزمن يختلفون في سلوكياتهم عن نظرائهم الذين ولدوا لأمهات طبيعيات وجد أن أطفال الأمهات المكتئبات احتاجوا ضعف الوقت لتمييز الأشياء عند عرضها عليهم بصورة متكررة، كما أن هؤلاء الأطفال يحتاجون وقتًا كبيرًا وجهدًا مضاعفًا لكي يتأقلموا مع البيئة المحيطة·
توتر وقلق
والتأثيرات الصحية والنفسية على الجنين لا تقتصر فقط على تلك الناتجة عن إصابة الأم بالاكتئاب، بل تمتد إلى كل أشكال التوتر والقلق والاضطراب النفسي، فالأحداث الانفعالية والمسببة للتوتر تؤدي إلى ولادة أطفال مشوشين وأشقياء وأكثر تعرضا للانحراف، و هذا ما حذرت منه دراسة طبية نشرت حديثا· وخلص الباحثون في مشروعي بحث منفصلين إلى أن توتر الأم قد ينتقل إلى طفلها مما يؤدي إلى ضعف نموه وتطوره·
وأوضح الباحثون أن المرأة التي تقع تحت ظروف موترة قد تؤذي طفلها بطريقتين، إما بتقليل توريد الدم للطفل، أو بنقل هرمون التوتر 'الكورتيزول' إليه فيؤثر على نموه وتطوره العقلي والذهني·
وتأثير الحالة النفسية للأم على الجنين والطفل، لا يقتصر فقط على فترة الحمل بل يمتد كذلك إلى ما بعد الولادة، حتى أن الدراسات العملية تؤكد أن الأم قادرة على بناء ذكاء طفلها وتحديد ملامح مستقبله إلى حد كبير من خلال الاهتمام به وتدليله خلال الشهور الأولى من العمر، وأول واهم مظاهر هذا الاهتمام والتدليل هو الحرص على إرضاع الطفل طبيعيا· فقد انتهت دراسة علمية حديثة إلى أن اهتمام الأمهات بالأطفال يساعد على رفع درجة ذكائهم وزيادة مهارة القراءة والذاكرة لديهم·
ووجد العلماء في الدراسة التي نشرتها مؤخرا مجلة 'الطبيعة' أنه حتى الأطفال الذين يولدون لأمهات متهاونات في إعطاء الحنان قد يطورون القدرات الدماغية إذا تم إرضاعهم من سيدات مهتمات وحنونات· ولاحظ العلماء أن أداء الأطفال الذين أظهرت أمهاتهم عناية خاصة بهم بإرضاعهم وتدليلهم وتقبيلهم، كان أفضل في فحوصات الذاكرة والذكاء والتعلم مقارنة مع أداء الصغار الذين أبدت أمهاتهم بهم اهتمامًا أقل أو الذين اعتمدوا في تغذيتهم على الرضاعة الصناعية·
والجنين لا يتأثر فقط بالحالة النفسية والمزاجية للام أثناء الحمل، بل أيضا بالطعام الذي تتناوله من حيث النوع والكمية ومدى توفر جميع العناصر الغذائية· فيه فقد كشف بحث جديد أن الأطفال الذين يولدون لأمهات 'جائعات' أو لا يتناولون مقادير كافية من الطعام أثناء المراحل الأولى للحمل، أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب في مراحل متأخرة في حياتهم· ويؤكد الباحثون أن نقص غذاء الأم بشكل عام وفي المراحل الأولى للحمل خصوصا، يعرض الأبناء لحالات خطيرة من أمراض القلب في مستقبل حياتهم· وتقول خبيرة الأغذية سارة ستانر، من مؤسسة التغذية البريطانية، إن الأطفال الذين تتعرض أمهاتهم لسوء التغذية أثناء الأشهر الأولى للحمل قد يصابون بالبدانة في مراحل متأخرة من حياتهم، وأن السبب في ذلك هو أن أجسامهم ربما تكيفت مع نقص الغذاء، لذلك فإنها لا تستطيع التعامل مع الغذاء الوافر الذي تحصل عليه فيما بعد، فتقوم بتحويله إلى شحوم·