الأحد 10 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تشيخوف.. لسان الصمت البليغ

تشيخوف.. لسان الصمت البليغ
27 ديسمبر 2018 02:10

رضاب نهار

الكتابة عند المؤلف المسرحي والقصصي الروسي أنطون تشيخوف (1860- 1904) حكاية درامية حقيقية تتجسّد على خشبة مسرح، بوجوه وبأصوات أشبهتنا قبل سنوات.. هي ممارسة يومية للحياة، لكن بلغة أدبية وبحوارات استشرافية قرأت واقعه وتنبّأت بمستقبلنا. وإذ يبدو وكأنه يكتب حبكاتٍ درامية تقليدية، نجده في الحقيقة يشعل ثورةً على النمط الكلاسيكي الذي كان شائعاً في الكتابة وقتها، وتحديداً المسرحية منها.
لا ينفع البحث في أعمال تشيخوف عن ذروة تقليدية تتصاعد فيها أفعال الشخصيات، لأننا سنجد بدلاً منها حوارات انسيابية تحمل على عاتقها إظهار الصراع الداخلي للشخوص دون الاعتماد على الأحداث الهامة التي تتجسّد في الحركة على خشبة المسرح، لذا تراهم يحترقون متسمّرين في أماكنهم، ممهّدين لنوعٍ مسرحي جديد يبحث في عبثية الحياة وجدواها.

الصمت الفاصل
اعتنى تشيخوف الكاتب والطبيب بشخصيات مسرحياته، فكتبها وشكّلها على حقيقتها من دمٍ ولحم، وصاغ حواراتها ببساطة دون تكلّفٍ أو مبالغة ودون أن ينسى وقفات الصّمت في الأحاديث، هذا الصمت الذي صنع منه لغةً بحد ذاتها،تحكي وتفضح، تعلن وتستنكر، وتقول ما لا يقال.
وفي محاولتنا الإجابة عن سؤال: لماذا طفا الصمت على سطح الحوارات المسرحية عند تشيخوف الكاتب والطبيب؟ نكتشف العلاقة بين أدبه وبين الزمن الذي كان يعيش فيه بتحولاته الكبيرة التي صدمت الإنسان بالحضارة ومعانيها، وبمنطق الحياة الذي لا يخلو أبداً من التناقضات والصراعات. فتشيخوف كما أبناء عصره، وجدوا أنفسهم واقعين على فاصلٍ زمني هام في تاريخ الإنسانية، أي على أعتاب القرن العشرين، العصر الذي حمل مفاجآت فظيعة أثبتت صحّة مخاوف تشيخوف وحساسيته العالية تجاه الأمور.
هنا كان عليه أن يمنح شخصياته فرصة التريث والتفكير من خلال الصمت، ويسمح لها بتقليب الأوراق والوقوف مع الذات في لحظاتٍ حميمية مؤلمة وكئيبة وأحياناً مزوّدة بالأمل الخفي. ما يعني أن هذا الصمتهو جزءٌ لا ينفصل أبداً عن شخصياته المتعبة، المليئة بالحنين والكآبة، الخائفة والقلقة، المتطلعة إلى الأمام بحذر وقد أكلتها والتهمتها حسرتها على سنينها التي رحلت ومن المستحيل استعادتها.. إنها شخصيات عالقة في فضاء من البرود والعبث والتعب يتناقض كلياً مع حركة العالم المتسارع من حولها.
إذن.. هذه التقنية في الكتابة لدى تشيخوف، ليست دخيلة على المزاج العام لنصوصه المضحكة والمبكية في آنٍ واحد.. فقد أصرّ على الصّمت ككلمة مكتوبة وكعنصرٍ لغوي ورمزي في حوار الشخصيات، محمّلاً إياه دلالات نفسية وسياسية واقتصادية واجتماعية تختصر واقعه الذي يحتاج إلى القليل أو الكثير من الصمت للتفكير بما يجري من أحداث. وتراه موجوداً بين السطور أي الصمت من أجل تسليط الضوء على الخواء العاطفي للشخصيات، وأحياناً كدليل على عجزها وعدم قدرتها على المواجهة أو متابعة حياتها. كما أنه يتخلل أكوام الكلمات ليشكّل النقطة التي يصل فيها الاحتراق إلى ذروته في نفوس الشخوص.. وكأن تشيخوف يستعيض به عن الحركة المسرحية المبالغ بها كما كان سائداً آنذاك.

ماذا بعد الصمت؟
الصمت «التشيخوفي» يناسب الأفكار المكتوبة ويتماشى مع المواقف في العمل المسرحي، لذا يحمل أكثر من معنىً وله دلالته المختلفة كرمزٍ من الرموز التي احترف تشيخوف نحتها في أعماله. وهو تارةً ما يتواجد كفاصلٍ بين حوارين لشخصيتين، وتارةً أخرى نجده يفصل حوار الشخصية الواحدة ويشطره إلى شطرين، قبل وبعد، أو أن يأتي كختامٍ لكلامها حيث تعجز عن البوح بالمزيد.
ولقد تمت الإشارة إلى الصمت عن طريق حوار الشخصيات حول ضرورته في بعض الأحيان، لأنه يحدث ويحمل معه لصاحبه الشعور بالسلام والاطمئنان في حال كان كلامه غير نافع أو يتسبب بالمشاكل أو لأسباب أخرى.. ففي مسرحيته «بستان الكرز» كتب تشيخوف الحوار التالي:
فاريا: حقاً يا خالي، الأفضل أن تصمت. اصمت ولا شيء أكثر.
آنيا: إذا لزمت الصمت ستشعر بالاطمئنان أكثر.
جايف: سأصمت. سأصمت.
ومن الدلالات المثيرة والمتكررة للصمت في أعمال تشيخوف المسرحية، جعله شبيهاً بالنظرة للوراء المليئة بالحسرة على ماضٍ رحل في ظل الحاضر غير المرضي بالنسبة للشخصية والأسباب عديدة طبعاً.. هي وقفات تصبّ في جدوى الحياة ومعنى الاستمرارية فيها وتحول الإنسان من الشباب إلى الشيخوخة، المرحلة التي تقرّبه من النهاية الحتمية.. وقد قال «فوينيتسكي» في مسرحية «الخال فانيا»:
«فوينيتسكي: أوه، طبعاً! كنتُ شخصية مشرقة لا تنشر نورها على أحد..
(صمت)
كنتُ شخصية مشرقة.. ليس هناك مزحة أكثر سماً من هذا! أنا الآن في السابعة والأربعين. حتى العام الماضي كنت مثلك أضع على عيني عمداً غشاوة من سفسطتك هذه كيلا أرى الحياة الحقيقية، وكنت أظن أنني أصنع خيراً. أما الآن، آه لو تدرين لا أنام من الأسى، من الغيظ، لأني أهدرت بحماقة ذلك العمر الذي كان بوسعي أن أحصل فيه على كل ما تحرمه عليّ الآن شيخوختي!».
ونجد كثيراً لدى شخصيات تشيخوف، تحوّل الحوار بعد الصمت من خاص لعام، أي أن يتحوّل كلام الشخصية إلى النطق بمقولة عامة أو حكمة تلخّص نظرتها للحياة بشكل عام بعد تجربة مرّت بها أو عايشتها، وبإمكان هذه الحكمة أن تنطبق على جميع البشر، وليس على الشخصية وحدها. مثلاً في مسرحية «الشقيقات الثلاث» إحدى المقولات هي:
فيرشينين: نعم سينسون. هذا قدرنا، ما باليد حيلة ما يبدو لنا جدياً، ذا وزن، مهماً جداً، سوف يُنسى مع الزمن أو سيبدو غير هام.
(صمت)
والطريف أننا لا نستطيع الآن أبداً أن نعرف ما الذي سوف يعد، في الحقيقة، سامياً، هاماً، وما الذي سيعدّ تافهاً ومضحكاً.
التهدُّم الداخلي
لتمثيل العجز على الخشبة من خلال الصمت، تصمت شخصية تشيخوف وهي ثابتة دون حراك على الرغم من أنها تتآكل من الداخل، مستطردةً بعده عن فراغها النفسي والعاطفي الذي يسيطر عليها وقد حوّل حياتها إلى جحيم. وغالباً ما يأتي الصمت كخلاصة لكلامٍ خرج من الروح صادقاً ومعبّراً عن حزنك وألمك وخيبة آمالك، ولا تملك بعده إلا أن تخرس. نعم الخرس هنا هو مرادف لغوي شرعي لكلمة «الصمت» التي كتبها تشيخوف، لكنّ شخصياته في معظم الحالات تستمر بكلامها المحمّل بتعبٍ لا يوصف.
ومن مسرحيته «النورس» نضيء على الحوار الهام بين «تريبليف» و«نينا»:
تريبليف: ارتكبت اليوم دناءة بقتل هذا النورس، هـأنذا أضعه تحت قدميك.
نينا: ماذا بك؟ (تمسك النورس وتتفحصه)
تريبليف: (بعد فترة صمت) قريباً أقتل نفسي بهذه الصورة.
كل ما ذكرناه من أحلام مبدّدة ونفوس يائسة مترقبة، لم يمنع تشيخوف من جعل الأمل رفيقاً خفياً لشخصياته. إنه أمل يرتبط بالحلم الرومانسي الجميل ويجعلها تستمر وسط عالم مليء بالكآبة والإحباط. وقد جاء الصمت في أكثر من حوار حاملاً معه هذا الأمل الذي لا يموت. ونذكر على سبيل المثال جزءاً من حوار في مسرحية «الشقيقات الثلاث»:
تيوزينباخ: لنبق هنا وندعهم يتناولون الغداء... دوننا. دعيني أبقى معك. فيم تفكرين؟ (صمت) أنت في العشرين. وأنا لم أبلغ الثلاثين بعد.. ما أكثر ما أمامنا من سنين، صفوف وراء صفوف من الأيام المليئة بحبي لك.
ما سبق كان وقفة عند بعض محطات الصمت التي افترشت أعمال تشيخوف المسرحية.. ونؤكّد أنه وعلى الرغم من أننا قد لا نستطيع أن نقف عند كل مرة ذكر فيها كلمة «الصمت» بجماليتها وحميميتهاالصادقة، من حقنا أن نفسّر صمت الشخصية بما يلائم زمانها ومكانها وحياتها، وبما يتماهى معنا، نحن الصامتين، أمام صفحات تشيخوف، فنذهب بخيالاتنا لنتصوّرها ونشكّلها في هذه اللحظة بالذات كما نريد نحن، ملامحها، أساها الذي لا ينفع معه كلام، أحلامها، نظرتها للآتي، شرودها.

من نبع الروح
في سبيل أن يعبّر تشيخوف عن تحركات الروح، ابتكر المسرح الذي يعطي الأهمية للحركة الروحية للشخصيات، ولا يلتفت إلى حركاتها الخارجية إلا بالقدر الذي يكفي للدلالة على طبيعة الحركة الروحية. وهو يصف هذا المسرح على لسان كونستانين: الكاتب الشاب الذي يبحث في مسرحية «طير البحر» عن شكل ومضمون جديدين للدراما بقوله: «على الإنسان أن يكتب دون أن يفكّر في شكل كتابته على الإطلاق، بل يدع هذا الشكل يسيل تلقائياً من نبع روحه».

د. علي الراعي
من تقديمه لترجمة «الشقيقات الثلاث»

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©