ربما لأن في رمضان تصبح الذاكرة مثل الغيمة تهطل بعذب ما تَخبَأه في معطفها، فتبرز وجوه، وتطفو صور، وتحدب أسماء في حقول النفس المعشوشبة بلواعج مثل موجات المحيط.
نتذكرهم؛ فنستدعي مشاهد وأحداثاً وأياماً امتلأت جعبتها بأحلام وآمال، وأمنيات لم تكتمل، لأن سكين الموت كانت حادة إلى درجة التوحش.
نتذكرهم؛ وتبدو وجوههم أمام أعينها كأنها النجوم المطفأة، وفي عيونهم شعاع يلظّ من بعيد وكأنه سارية سفينة تتلاطم بها الأمواج.
نتذكرهم؛ وهم في سلامهم، ونحن في ضجيج مراكبنا، تشير إلينا دقات الساعة إلى أن الحياة فصول وجداول، وأننا في المعمعة قشات تقذفنا الريح في الماء العكر، فنسقط لتستدير بنا إبرة التيارات المائية، فتنأى بنا، ثم تقصينا إلى حيث تكمن الذاكرة الملأى بزخارف السنوات، ومنمنمات الحياة، وكذلك النبرات، والعثرات، والكبوات، والزلات، والهفوات، والهنات، والآهات، والشهقات، والأنات، وجروح أدمنت البقاء في أرواحنا، ومشانق لفرحة ربما أسكنت حبالها في القاع، وصدمات في جدران سميكة، لم تزل كدماتها محفورة في طبق القلب، وأشياء أخرى غمق لونها جراء التقادم الزمني، ولكنها لم تفقد أزيزها وهي ترجّ الفؤاد رجاً، وتبسّ الروح بسّاً، وتفجّ الرأس فجّاً، ولكن كم هي لذيذة هذه الورطات الزمنية حينما ترتبط برائحة أشخاص لهم في الوجدان ما يرسم صورة الخلود، والتجلد، ولهم في ثنيات القلب ما يسطر للتاريخ وجعاً، ألهم الخاطر ما يمكن أن يجعله في الوجود نجوداً تزهر في الحياة، وتلون العمر بالزاهي رغم فوات الأوان، ورغم ذبول جذع النخلة وانعقاف الأغصان.
نتذكرهم؛ فتنمو في تلابيبنا سانحة البقاء، وتنهض أجنحة الرفرفة، لعل وعسى تنام كل المنغصات، وتصحو ابتسامة الصدفة، فينعم الوجود براحة وريحان وروح أمل، وبادرة تعيد للأشياء فطرتها، وتطوق العيون برموش، كحلها من دامس الليل، وطلاء أظافرها من واضح النهار، وشالها من خيوط الشمس، ومعطفها من ضور القمر.
نتذكرهم؛ وتصبح الذاكرة في رمضان مثل مشط يعيد ترتيب خصلات كطيات الحرير، نتذكرهم وفي القلب تسكن صورهم كأنها الزعانف في عمق الماء.
نتذكرهم؛ وفي رمضان كل الأشياء الرهيبة تترعرع، وتنزع فتيل وهجها.