هي تلك الجسور التي نقيمها مع الآخر المغاير، حين نتفق على مساحة تقاطع خضراء للالتقاء والحوار وتبادل المنافع والمعارف، جسور يمكنها أن تصنع ذلك القبول، وتغير من الصورة النمطية، هذه الجسور عمادها الثقافة والفنون بمفهومهما الشامل، بحيث يمكن أن يكون الأكل كسفير لك عن الطرف الآخر أو طقوس المآدب، مثلما فعلت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت سمعة الياباني في الحضيض، وأسهمت سينما هوليوود في خلق صورة نمطية للياباني الذي يبقر بطنه ساعة الهزيمة، وأنه زير نساء، عربيد سكير، ويعامل الأنثى بدونية، ماذا فعلت اليابان بعد هزيمتها وتخليها عن آلتها العسكرية الحربية؟ لجأت إلى طقوس تقديم الشاي الياباني في المجتمع الأميركي، وهكذا مدت اليابان جسراً من حرير تعبر عنه ثقافتها الحقيقية وإرثها التاريخي، وممكن أن يتقبله الطرف الآخر، اليوم الياباني شخص مؤثر في وعلى الاقتصاد الأميركي، وهو حاضر في التقانة وأدواتها الدقيقة، وهو محترم، ولا يشبه ذلك الجندي الذي حطم خليج «هاربر»، لكن الفضل الأول والمتقدم لحفلات طقوس صنع وتقديم الشاي الياباني «سادو» التي كانت تقيمها الأسر اليابانية في مختلف الولايات الأميركية بجهود شخصية ومنتظمة.
وكم تمنيت حين قاطع البرلمان الأوروبي معرض إكسبو دبي، متعللاً بمسائل تتعلق بخرق حقوق الإنسان عندنا، ونحن نعرف خفايا إثارة مثل تلك المواضيع، وما يخص علم «الرينبو».. تمنيت لو أن الإخوة عندنا التفتوا إلى مسألة بسيطة جداً، وموجودة عندنا منذ 60 عاماً، وهي طابع بريدي أصدرته دبي في ستينيات القرن الماضي اعتزازاً بحقوق الإنسان، فقط ذاك الشيء البسيط والصغير، والذي يغني عن كثير من الكلام، ويعطي الجواب الناجع، ذاك الطابع البريدي القديم هو من القوى الناعمة أو جزء من جسر الحرير الذي نتحدث عنه، وقد يفعل بتأثيره أكثر من خطاب سياسي اعتاد الناس عليه.
جسور الحرير ليست منوطة بمؤسسات ضخمة، وصرف أموال ببذخ، وعمل خطط عشرية، وخبراء ولجان وندوات باللغة الإنجليزية نصرف عليها أكثر مما نصرف على المشروع نفسه، جسور الحرير قد يتصدى لها فرد من الأفراد المؤمنين بحق الأوطان عليهم من المؤهلين والواعين، والذين يمكن أن يكونوا سفراء غير معتمدين أو جمعية ذات نفع عام، تأخذ معونتها السنوية البسيطة من وزارة من الوزارات، لكن دورها أكبر من تلك المعونة بالتأكيد، قد يتولى الأمر مؤسسات بدعم شخصي وتطوعي، لكنها تعي واجبها ودورها، وثقتها بمفهوم الدبلوماسية الثقافية، وريحها الباردة، وما يمكن أن تصنعه في سبيل التغيير والتجديد في الاتصال والتواصل مع الآخر، بعيداً عن ضجيج الأمس، ومدافع الأمس، وزبد خطاب الزعامات المرعدة، الآن صوت آلة «التشيللو» التي يحملها عازفها، كجثة صديق مخلص، يمكنه أن يسافر بعيداً، متخطياً اللغات والأعراق والأجناس ومسافات الجغرافيا، جاعلاً الناس بمختلف ألوانهم وثقافاتهم ينصتون بعمق، ومتسللاً لدواخل أرواحهم، ناثراً شيئاً من النور!