لو كانت الغيمة وسادتي، لنمتُ مطمئناً والتحفت متدفئاً بالريح، وحلمتُ مثل بقية الطيور بالانتماء إلى المطلق واللانهائي. لكن سريري هو الأرض، ومخدّتي عتبة باب السؤال، وغطاء نومي أوراق كتبٍ قديمة. ومثل بقية إخوتي أتوقُ إلى الحرية وأدركُ أنها قصةٌ مستحيلة. وأعشق امرأة لا وجود لها إلا في القصيدة، ويسابقني ملثمون وبقايا أشباحٍ إلى باب الحقيقة من يصل إليها أولاً ويمتلكها إلى الأبد. حسناً، سأركضُ أسرعَ من الزمن كي أفوز بالخلود. سأعانق الأشجار لعلّ ذراعيّ يصبحان غصنين طويلين. سأنثر الورد على رؤوس نساءٍ كتبَ عليهنّ الشقاء في الحقول الشائكة، فلربما وجدتُ بينهنّ صورة أمي وذكرياتها. نعم، وسأمضي غير ملتفتٍ لمن يتراشقون على جانبي الطريق وهم في الأصل إخوةٌ من نبعِ واحد ومن تربةٍ واحدة. سأمضي لا لأصل، وإنما لتذوق رجلاي عذوبة الانتصار على المسافة، ولتعانق عيناي متعة الابتعاد عن النقطة وحلاوة الانفلات من كل قيد أو شرطٍ أو حنين.
لو كانت النجمة في يدي لرميتها جمرةً في حقول الظلام وأشعلتُ الحياة بألوانها الألف. لكن أصابعي ترتجف في البرد، وقلبي يخافُ إذا اشتدّت العتمة واستأسد أتباعها. وكنتُ قد رأيتُ الجهلَ يسكنُ في العقول المتحجّرة ويحيلُ أصحابها إلى قتلةٍ للورد ومعانيه السامية. حسناً، سأصفّقُ لكل كلمة بيضاء وأطلقها طائراً في سماء الأمل الجديد. سأستلُّ قلماً وأطعنُ به الكلمات الخائفة لعل فحيحها يختفي، ويُزاحُ سُمها من ترنيمة النشيد. أنا الآن طفلٌ تحت عمود إنارة مطفأ، لكن شمعتي في يدي، وستكبرُ غداً لتصير برقاً في سكون سماء آتية. ومثل بقية إخوتي، سأصعد باص الذاهبين إلى اكتشاف الذات، مدركاً أن الجسد والروح أسيران للمعنى، وأن الفكاك من قيد الوهم، يبدأ عندما يؤمن الطفل في داخلي بأن غاية الحياة هي الفرح، هو الرقصُ على إيقاع هذا السحر الذي يتجلى في مطلع الضوء وفي اشتعال شهوة الريح للبحر، وفي هطول مطر الأمنيات على الجالسين في وحشة الانتظار والصبر.
لو كانت الحقيقة ملكاً لأحد، لرماها في الوحل وفرّ من غموضها. لكنها مجرد فكرةٍ يطاردها الجميعُ سُدى. ولو كانت الحقيقةُ ملكاً للجميع، لرأيناها تُلبسُ كقناعٍ عند المواجهة كي يتعرّف الجميعُ على الجميع. لكنها قناعٌ متغيّرٌ على الدوام، وإن لبستها ستكون أنت في المرايا عكس ما أنت في الكلمات وعكس ما أنت في الصمت. وتلك حقيقتك الثالثة.