مثل نسر يتأمل أعالي أشجار السدر في معيريض، ويقتفي أثر الثمرات التي لم تزل عالقة بين الأغصان، مثل رواية تعتني بالتفاصيل، وتسرد قصة الطين والحجر وتفيض بالجملة الرائعة عند كل فصل،  ومفصل، مثل حلم تهجّى الأبجدية في ثنيات وجدان من غابوا، ومن غيبوا السر الدفين في أعماق تلك الحصيات المتراكمة بين خاصرة، وضلع.
برج معيريض، ينتصب وعياً بأهمية أن يكون التاريخ موجة تحرك في القلوب لوعة الفقدان، والحرمان، وأشياء أخر، كانت هنا في هذا النصب، وأشياء توارت خلف كثبان من رمال النسيان، مختبئة في غضون العقل الجاهم.
برج معيريض يسمق هنا خلف تلك البيوت التي غادرها أهلها وبقيت مثل أحافير في وجدان الأرض مثل أساور فضية عفى عليها الزمن، مثل أختام نامت بالقرب من البرج، تتحرى الدقة من سلامته، بعد زمان من الصمت الرهيب، بعد عمر شاخت فيه العظام، وشاهت ملامح الوجه المهيب.
برج معيرض اليوم ليس أكثر من جزيرة نائية عافها الطير والخير، رغم كل ذلك البريق في محاراتها، رغم ذلك الصرير في حنجرات أحجارها، الضجيج طغى، وبغى، واحتل فؤاد البرج كما استولى على صدحه، وبوحه.
في هذا المكان من العالم، يرفع البرج رأساً، متطلعاً إلى يباب المراحل، وسراب المناهل، وينصت بإمعان لتلك الزمجرة بين الأقاصي، والأداني، ويحمل في أحشائه روعة الذاكرة، وهي الحقيبة المغزولة من خيط السفر الطويل على سنام وسرج، كان هكذا يغذ السير، ويمتطي فرحه عندما كان الفرح هو السجية الرخية في ضمير العشاق، ومدنفي الحب، لحياة لا خبيب فيها إلا من أجل بيان عمران النفس، وبنان الكتابة على الرمل، حيث الرمل كان الصفحات وحيث الحبر كان من شفاه الذين وضعوا الحجر، والطين في قلب الوجود، والذين صنعوا من الأحلام قمصان أفراحهم.
برج معيريض، تطوف من حوله اليوم، العابرات، والساريات تمر وفي مرورها لون من ألوان التفجع، لأن البرج لم يعد يغني للحمام، ولا يسكنها مكانه والبرج لم يعد يرفع النشيد، فقد سقطت عن فيه القصائد، وبهت لونها، بهتت، كما هي الأوراق على أغصان السدر، واللوز، والليمون، لم يبق هناك سوى رائحة أغرب من الخيال وبعض خرق ملقاة عن الناصية، وحكايات ليس لها أول ولا أخر، ولكن مع كل ذلك يبقى البرج حارساً لأشجان معيريض، يغرس أقدامه في التراب، ورأسه يعانق الغيمة.