على مدخل زاوية الـ «مونوبغي» في الدائرة الخامسة عشرة في باريس، كان هناك عجوز متأنقاً دائماً، من أولئك الأبطال الخارجين من قصص «موباسان»، والذين يمكنك أن تميزهم من عطورهم المركبة لهم وحدهم، وبأناقة تعبوا عليها كثيراً، كان يبيع في ذلك الحانوت الذي يشبه «أكشاك» باريس الخشبية التقليدية الورد والزهور، كنت أراه في اليوم الواحد على الأقل مرتين، في ذهابي كنت أصبّح عليه، وهو يبلل تلك الوريقات الخضراء، والورود بألوانها: منبهاً إياه في ساعة غفلته: «بونجوووور»، وقبيل المغرب، كنت أراه وهو يودع أشياءه وحانوته، ويهم نحو مسائه المعطر بـ «البوردو» وسبحانيات الليل، لكني لا أنسى أن أمسيّه بالخير: «بونسوار.. مسيو»، في بكوره، كان يرد التحية بعافية الصباح، لكن في المساء، يبدو متثائباً بحكم السنين، وبحكم ما ردد من صباحات ومساءات في ذلك اليوم على كثير من العابرين والمشترين، فيكتفي بإمالة رأسه قليلاً، معتقداً أنها تُغني عن الحديث لرجل في مثل سِنّه، ومع الأيام بدأ ينتبه لي حين أردف اسمه تبجيلاً بعد التحية المعتادة «بونجور أو بنسوار مسيو ألبير»! كان يعتدل بقامته الطويلة المائلة إلى النحف، حين يبدأ العمر يقتص من متانة الشباب، ولحم الأكتاف، ليبدو الشخص مجهزاً بحجم يليق بالتابوت الخشبي، يبتسم مع هزة الرأس، فلا تخطئ فراستك أنه كان عسكرياً في زمنه البعيد أو أقلها أنه شارك في حروب فرنسا في مستعمراتها البعيدة، ربما كانت تلك حيلة يتعمدها الفرنسيون حين يريدون التقرب مِن الآخر بتذكيره باسمه الذي قلما يسمعه في بيته أو أثناء كبره، «مسيو ألبير» يأتى غريب فيذكرّه به فجأة وسط مارّة مستعجلين، وغير آبهين، فيشعر وكأن أحداً وقف له احتراماً وسط حشد من الجنود، وقدم له التحية العسكرية بانضباط تام، فيفرح نهار ذاك اليوم أو يذهب منشرحاً نحو جوف الليل على غير عادته.
«بونجور.. مسيو ألبير» كانت فاتحة لالتفاتة من ذلك الرجل المتسربل بأسراره في حانوته، والتي ظلت تكبر يوماً عن يوم، وكنت ترى بعضاً من العافية عليه، لم تكن تلحظها من قبل، غير أن «مسيو ألبير» ربما ظل متسائلاً طويلاً، وبعناد وصبر عسكري، من هذا الغريب الذي يصرّ على إلقاء تحية الصباح والمساء عليّ، وكأنني جده الذي ربّاه في تلك القرية الوادعة في الريف الفرنسي بعيداً عن خوف الأم، وعدم اكتراث دائم من جهة الأب؟ لِمَ يكتفي بالتحية صباح مساء، ويصرّ عليها، من دون شراء باقة ورد بـ «فرنكات» قليلة؟ ربما ليس لديه أحد يهديه أو لا «بلكونه» تطل على الشارع، وتتسع لباقة من زهر التوليب حين ينعي بلونه الأصفر الزاهي بكل خيلاء التفرد، وحين يبغي تاج التَسيّد.
بقيت الأيام تدلني على حانوته الرطب والمخضَرّ دائماً، كانت فيه وحواليه برودة جميلة معطرة، وفي يوم حان أن نتواجه بسؤالين مخبأين في الصدر: «لِمَ لا تشتري ورداً أو زهراً من حانوتي أيها الغريب الطيّب؟ كيف يفوتك زهر التوليب الأصفر»؟ قال ذلك «مسيو ألبير»، فقلت له: «لا أحب الورود ولا الزهور أن تدفن في بيتي»! صمت الرجل العجوز بائع الورد كدهر، فأردفت قائلاً: «لِمَ تبيع أنت الورود والزهور»؟ أطرق قليلاً، وتنهد، قائلاً: «لقد دفنت الكثيرين في حياتي، ولا أعرف لهم شواهد لكي أضع وردي على قبورهم، فقررت أن أبيعه لمن يعرف شواهد محبيه»!