لا أملكُ رسالةً أو نطقاً سوى الخفقان السريع للقلب، سوى الرجفان والتعرّق والتلعثم والارتباك. هذه لغتي كلما نوى اللسانُ أن يقول: مرحباً بقدومكِ. كنتُ طفلاً حين احتشد الفلاسفةُ في حظيرة الاختلاف وأحرقوا أصابع بعضهم، وعضّوا على الأقلام حتى تكّسرت تحت أسنانهم. وحين تفرقوا، لم أجد في مكان فوضاهم على معنى كلمة (الحب). ولم يقل السائرون على نهجهم شيئاً أو نصيحةً للذي يقعُ أسيراً في حفرة هذا السؤال، أو الذي تنهشُ عقله الحيرة فيبدأ بالطرقِ على النوافذ والأبواب بحثاً عن الحقيقة، لكنه في كل مرة يرجمُ بالإهانة، ويتهمه عسس الأخلاق بالمروق كلما أفتى: أحبها.
كنتُ طفلاً نعم، لكني كتبت بحروف كبيرة على أسوار المدارس (أنا الحب) فصارت صرختي درساً وامتحاناً في الصعوبة العظمى وفي بلوغ المستحيل. لم يتبعني أحد، ومثل قطيعٍ هاجمته ذئاب الغفلة، تفرّق أصدقاء الطفولة سريعاً. ذهب هذا إلى الاحتماء بفكرة الطمأنينة وصار خصماً لثورتي. وذهب ذاك ليكون سيداً بالمال والأتباع فقيّده الحِرصُ من يديه ورجليه ولسانه. ثم قرأتُ في كتابٍ ممزقٍ قصيدةً عن امرأةٍ فستانها المطر الغزير وهي تصعد في كل ليلةٍ على جبل بعيد وتبدأ بالعواء فيستيقظ القمر قليلاً، لكنه يعودُ ويكملُ غفوته في دفاتري.
أنا الإنسانُ الذي يملكُ كلمة واحدة فقط هي (الحب). لو أجلسُ في كفة الميزان وحدي والكون في كفةٍ ثانية، لرأيت الطيور الحزينة تهجر أعشاشها وتسكنُ في المرايا، ولرأى الناسُ الفقير يضحك واليائس يرقص والمتجهمون يقفون فجأة ويبدؤون باللعب مع الأطفال والأيتام والمحرومين. كل هذا سيحدث إن انتشرت كلمة (أحبها) في الشوارع والصحف والإذاعات. وقد يؤيدُ منفيون فكرة أنني أهذي وينصّبون رأسي قمراً في حلكة أحلامهم. وقد تخرجُ امرأةٌ من قفص فستانها وتصير طيفاً في خيالات النواطير المأمورين بقتلي. فليكن ذلك لا بأس، فكلما أطلقوا الرصاص على كلمة (الحب) سقطت ظلالهم. وكلما جلس عاشقان على كرسي الحديقة وتعانقا في العلن، صفّق مليون ملكٍ وضجّت السماءُ بضحكات الكواكب والنجوم.
كنت طفلاً، واليوم أجلسُ مثل رجلٍ عجوز على ظهر سلحفاة عجوزة. لا أكترثُ لفكرة الزمن، ولا تعني لي شيئاً كلمة (الزوال). ذلك لأنني قفزتُ في مغامرة العشق وارتطم جبيني بجبل، وداست أقدامي على الشوك، وكان ذلك ضرورياً كي أدرك أن كلمة (الحب) هي منطاد الخلاص لجميع الهاربين من فساد الأزمنة.