كان كطائر ينبش بين صفحات النيل عن صورته في الماء، ويرفع النشيد عالياً لأجل أن تغني الأعشاب النهرية، ويطرب الإنسان الغافي عند الضفاف، وترقص النجوم جذلاً بهذا الكائن العملاق العريق الذي مد اللسان اللدن على صدر التراب المصري الحبيب، وكان ذاك الشاب الغر، القادم من فيحاء الخليج العربي، المتدرب على بث الأشواق منذ نعومة الأظفار، هذا القابع عند شغاف الملح وفوق سحابات الرمل الصحراوية، كان من قلب جلفار، يرتل تلاوة عزلته، ويمسح دموع الفرح بإبهام اليد، ثم يفتح نافذة للرؤية كي يمعن النظر بهبة النيل، أم الدنيا، ويسرد قصة حبه لأرض من يطأ أرضها لا بد وأن تنث رائحة النيل في حواسه، كأنها البخور الإماراتي، كأنها الحلم الصحراوي، كأنها الذاكرة في ضمير الغاف، كأنها الصورة المتخيلة لحبيبة لها في الزمان أسطورة الجمال، ولها في المكان ملحمة التاريخ المديد.
هذه مصر كتبتها في رواية طويلة منذ خمس سنوات بعنوان «جلفاري على ضفاف النيل» وحضرت توقيعها في معرض القاهرة السابق، وكانت بهجتي في لقاء الأصدقاء والأحبة ورفاق الدرب الثقافي واسعة الحدقات.
هذه مصر عندما تحضر تتلاشى الصور والأحداث، ولا يبقى غير وجه النيل البراق، ورائحة القطن منبثقاً عن عشبة البياض في الضمير المصري.
لو كتبنا عن علاقة الإنسان الإماراتي بمصر، فلن نستطيع ملء الوعاء بكامله، لأن الحب عندما يسكن قلباً ما، فإنه لا يترك مكاناً للكره ولا يجاوره إحساس غير مشاعر التعلق والانتماء إلى كائن أصبح جزءاً من الحياة، صار كلاً لمباهجها، ومناهجها وفعلها وتفاعلها. اليوم والإمارات ومصر تحتفلان لمرور خمسين عاماً من الوشائج الراسخة، والعلاقات الاستثنائية، نشعر بالفخر والاعتزاز بأننا جزء من هذا التحريض الجميل على الحب، وهذا التواصل الزاهي بين بلدين تأسست حضارتهما على السلام أولاً، وعلى اللحاق بركب الحضارة الإنسانية بقطار أسرع من الريح، وبدوافع مرتبطة بثوابت قيمية وفكرية وأخلاقية لا تزحزحها عواتي الدهر ولا تعرقلها مفزعات التحولات السياسية، بلدان قامت رؤيتهما على الرواسخ التاريخية وحضارة لا تنتمي إلا إلى الإنسان كونه راعي الكون، وهو العمود الفقري لأي بناء حضاري. هكذا نجد العلاقة بين الإمارات ومصر، وهكذا نرى الحب ينمو في الضمير كأنه الزهرة البرية تفرد وريقات الجمال والسلام والأبهة، وما البشر إلا فراشات تدور بأنعم الأجنحة محيية هذا التكوين الخلاب، منسجمة مع هذا الكون الملهم لتمنح الحياة مزيداً من الدهشة وحب الحياة، بدلاً من حب البقاء.
الإمارات ومصر الجغرافيا والتاريخ معاً على صفحات القلوب وسوياً نحو غايات تفتح الطريق لمبهرات أعظم.
الإمارات ومصر النهر والبحر عند مصبات الوعي هما ملح القلوب، ورشفات الوعي، هما كل ذلك في ظل قيادتين عشقهما يتولد من بنائهما التراثي والتاريخي الرائع.