زرت في مدريد محلاً للعطور مختصاً بذاكرة الروائح، ويخبئ العطور القديمة والنادرة عن الناس، وللناس، عطور من التي نسيها أصحابها في سرعة عجلة الحياة، ودوران الوقت، وعدم تذكر الجميل والمعروف ومن أحبوا من الناس في وقت ما، لأن العطر هو الوحيد الذي لا يمكن أن يذكرك بشخص لا تحبه، فالأعداء لا عطر ولا رائحة لهم، غير رائحة الطرقات الموحلة بمخلفات الخيل، وزفير الخوف اللامنتهي.
عطور في ذلك المكان، ومن كل مكان في ذلك الحانوت الذي عاد بي إلى سنوات مختلفة من الحياة، ومرافقة عطر معين لها، وارتباطه الوثيق بما كان يكمن في تفاصيل ساعاته وأيامه، ذلك المحل يهب لك ذاكرة جديدة أو متجددة بمجرد أن تنظر لعلبة عطرك القديم، فجأة تتداعى الأمور، وتنثال الأشياء على بعضها، فجأة تظهر تلك الوجوه التي غيبتها الحياة أو كبرت بعجل أو ضاعت في دروب الحياة هكذا، من سحبته النصوص نحو السواد ونبذ الحياة، ونكران العطر، وأنه محرّض على الإغواء، وأنه بعض من رجس، ومنهم من ضاقت به الحياة، وأعتمت تلك الزاوية التي يقبع فيها، وما عاد للعطر أي حيز يمكنه أن يستدعي سعادة قالت له: وداعاً.. منذ أمد لا يستطيع أن يعدّ طول لياليه.
ماذا تفعل الروائح في الإنسان؟ ولِمَ تذهب به نحو أماكن بعينها؟ ولماذا تستحضر وجوهاً من النسيان؟ أي سر يكمن فيها وأي سحر؟ كنت لساعة ويزيد في ذلك الحانوت باحثاً عن ذكرياتي من خلال عطوري، شيء أتذكره ولا أنساه، وشيء غائب تناديه الروائح، وشيء يخرج الآه حين يعنّ عليك وقتها، وشيء يشبه العجب يحضر ويستحضر معه كل الأشياء، يخلق لك شريطاً جميلاً من الوقت، فيه كل الزخارف والروائح والوجوه، وكل ذلك الضجيج الذي حدث مرة، وسرقته منك الأحداث، وها هو يعود الآن بفضل رائحة ساكنة في قاع الذاكرة أو منظر زجاجة ذهبية ترتدي قبعة زرقاء ملوكية تشبه كحل الليل، ياه.. ذاك العطر يشبه امرأة لوحدها، وذاك جلبته لك ريح خاطفة هامسة بالعشق، وتلك الزجاجة المغبشة التي تشبه زهرة خجولة، كثيراً ما توسدت جيباً صغيراً في حقيبة يد نسائية غالية، كانت تفاخر بها، وذلك العطر المحظوظ الذي كان يسكن حيث يشاء من الأماكن، ويمشط برائحته شعراً كستنائياً يشبه ذيل فرس جموح، ما أقسى العطور حين تكون في معبدها، لها سطوة المكان، ودخان الأساطير وسرديات حكايا لا تنتهي من كاهنات المعبد وطقوسهن في غلبة الرجال، وإشاعة الحظوظ، والوعود بسفر ميمون.
لا ندري لِمَ ذاك العطر يذكرنا بالصباح، وآخر بالمساء، وهذا عطر لا يحضر إلا في مدن إسبانيا، ولباريس عطر آخر، تخلق عطرها من نفسها ولنفسها، ترى كيف هو عطر فيينا في ذاك النهار مع طالبة المعرفة الإنسانية، بنت العم التاريخي، وحزنها الأبدي على ما فات؟ لا تقولوا لي إنه ليس للندن الراقية، وعطر سيداتها الأنيقات المتأنقات ببذخ يكاد يصطنع رائحة أرستقراطية، رائحة تلك العطور التي هي قريبة من رغاوي الصابون، و«بودرة التلك» وخفايا اللافندر، عطور متداخلة مع سحر تلك المدينة التي هي شيء من رماد وبرد وتقاليد توحي بالحذر والخوف، وما يخرج من خلف أشجار الغاب من حكايات.
للبهارات عطرها، والهيل كذلك، الزعفران يذهب بك لونه بعيداً، وتجلبك رائحته قريباً، الشاي رائحته ساكنة، ولا تتكلم، القهوة رائحتها فضّاحة، وتناديك من بعيد، لا تُخجلوا قولي بأن ليس للمطر روائح، واشتهاءات بريئة كقطراته المنسابة والهاطلة، والتي تنفّ، والماطرة، المتساقطة برتابة نحبها، لكل إيقاع في المطر رائحته الخاصة التي لا تشبه أختها.
ما أجمل هذا الحانوت الذي يسكن في شارع منزوٍ في مدريد، والذي قدر أن يكبّلني لساعات، دافعاً إليّ كل روائح الدنيا، لا شك في أن راعيته امرأة أو هي أرملة بحّار أرادت في لحظة جنونها، وبعد أن غاب البحّار في زرقة الماء أن تستحضر هداياه أو عطور مدنه التي أحبها، فقط.. ربما أرادت أن تُسعد نفسها، وتسعد غرباء عن مدينتها بأن دلّتهم على مخابئ الروائح، وذاكرتها التي تعني ذاكرتهم!