تخيلنا بالأمس، ونحن نشاهد نهايات كاس العالم كما اعتدنا أن نشاهدها طوال سنوات تعدت الأربعين عاماً سوياً، ويزيد مما لا نعد ويعدّون، لم ينقص منا إلّا من لم يكن حاضراً في البلد وقتها وحينها، ونحن نحمد الله على أنه يجنبنا الفراق، ولا يغير علينا حالاً، ويديم علينا صحة الأبدان، وكمال العقول، ونفع الذاكرة، لكننا حاولنا أن نتخيل جلوسنا في افتتاح بطولة كاس العالم المقبلة في عام 2026 في أميركا وكندا والمكسيك، وبدأنا نتذكر مسترجعين تلك البطولات التي عاصرناها، وشهدنا تحولاتها وأحداثها، وجماليات فنون لاعبيها وأساطير نجومها، وقلنا: الله لا يغير حالنا، ويديم علينا أحوالنا، لكن لو هاجمتنا الشيخوخة مبكراً، ولم تمهلنا كي نشاهد البطولة المقبلة بالعافية نفسها والحماسة عينها، وتخيلنا وضعنا كمسنين في دار أحدنا ظل يجمعنا:
- ستكون الشاشة الجديدة الكريستالية للتلفزيون ما فوق الذكي عام 2026 صعبة الرؤية، والشاشة المائية تزغلل عيون المشاهدين الذين كبروا في عمرهم الافتراضي، منهم الذي يشتكي من المياه البيضاء أو الزرقاء، والذي بدأ يزيد عنده العشو الليلي، وذاك الذي ما زال يصر على عدم ارتداء نظارة تصحيح النظر، رغم الجهد الواضح الذي يبذله في الرؤية، وهو يرصّ عينيه، ولا تظهر له الأمور إلّا مغبشة أو كأنها آتية من بعيد كالسراب، فيفرح بمرآها، ويصدم برؤيتها.
- كل واحد منا يأتي لمشاهدة المباريات ومعه الممرضة الفلبينية التي تعرف أوقات أدويته وما ينفعه من الأكل، ومتى تكون حاجته للتحرك والحركة، ولا يعني لها نزاعه وصراخه شيئاً، وكأنها أمه الافتراضية، والتي يسمح لها وحدها بأن تعلي صوتها عليه، لأنه عادة ما يتصرف تجاه أوامرها كصبي أرعن، ولا يستسلم إلا حينما تدفع كرسيّه في تلك الظلمة وهو ينازع أحلامه المتقطعة.
- اختلفت طلبات «عشيات» الآن عن طلبات «عشيات» الأول، وأصبحت اليوم: شوربة دافئة، وخضراوات مضروبة في الخلاط، ووجبات مستشفيات منزوعة الدسم، وخالية من «الغلوتين»، وكله شغل «شوفان وأفوكادو وبروكلي أورغانك»، راحت الذبائح التي تأتي من تنور العين، واللحم الأرجنتيني، ولحم الفاغيو، وحلّ مكانها عيش شيلاني مع روب وخيار، وفواكه مقطعة، وماء غازي ينصح به الطبيب المعالج.
- أصبح كل واحد منا معه نظارتان؛ واحدة للبعيد، وأخرى للقريب، والبعض مركب سماعات أذن لزوم عدم الإحراج، وكثرة السؤال، وعدم معرفة الحوار، وكثرة ترديده؛ نعمممممم.. شووووو.. منوووووو.. انزين، وبعدين! وهو في الواقع ما سمع شيئاً، ولا عرف يشكل موضوعاً متكاملاً من الحوار الدائر، وعادة ما تكون ردة فعله متأخرة كثيراً.
- نظل نتذكر لاعبي كاس العالم السابقين الذين تقاعدوا وأصبحوا معلقين لا يفقهون في قوانين اللعبة الجديدة، وكل توقعاتهم يصادفها الغلط، والنتائج العكسية، وهم يظهرون ببدل رمادية استفادوا منها من مشاركاتهم الكروية الدولية السابقة في قديم عهدهم، وأصبحت اليوم عليهم ضيقة بعض الشيء.
- معظمنا لا يشاهد المباراة بأكملها، ذاك منا الذي يغلبه النعاس نتيجة الأدوية والمهدئات، والذي يجعله الحديث التلفزيوني يغط في نوم عميق، والذي لا يبالي بالذي يحدث، ويجلب له الملل بسرعة، وكان اعتماده الأساسي على سماع تحليلات رفاق بهو الفندق صباحاً مع فنجان القهوة الوحيد المسموح له، أما ذلك المتحمس واليقظ في الساعات الأولى، والذي يعتمد على النوم المتقطع في يومه، فكان يكتفي بمشاهدة المباريات بنظام الحلقات المتقطعة، لكي يكوّن رأياً فنياً صحيحاً ومتوازناً ودقيقاً عن مجريات مباريات كاس العالم، فهو أكثرنا خبثاً، ومحطّ غيرة من الجميع على كل هذا الثبات والذاكرة الصلبة والتحليل العميق الذي يذكرنا بتحليلات الخبير الدوسري في زمانه.. وغداً نكمل