في الحب مشاركة، وفي الجشع احتكار واستغلال.
صدق سقراط القائل إن من يعرف الحب، يعرف الحقيقة، لأن في الحب تغيب الأنا، وهي الحاجز السميك الذي يغلف الشخصية الأنوية ويمنعها من الاندماج في الوجود.
الحب حالة انفتاحية على العالم، وهي يد مفتوحة على العطاء من دون حدود، ومن دون شروط.
قد نستغرب عند القول بأن الحب انعتاق من الانقباض، وقد نندهش عندما تقول الفلسفة الشرقية أحبب نفسك، على خلاف ما كان يلهج به أرسطو بالقول اعرف نفسك، لأنه ما من مخلوق يستطيع أن يعرف نفسه دون أن يحبها، فكيف يستطيع الفرد معرفة شخص ما دون أن يرتبط به بعاطفة حقيقية وصادقة.
الحب هو مسبار المعرفة الحقيقية، وهو الحقيقة بمعناها اللغوي والخيميائي الذي تتحدث عنه فلسفات الوجود.
الحب الحقيقي اكتشاف لذلك القناع الذي يضعه الحب المزيف، وهو الاختبار لما هو كائن في الداخل، ومن لا يستطيع إلا مراقبة لما يحدث في الداخل، يظل هذا الداخل غائماً معتماً مفعماً بالغموض، بينما الحب الحقيقي هو انقشاع الغيمة وهطول المطر وتفتح الأزهار وانتشار الشذا في كل مكان، لأن الحب الحقيقي ليس موجهاً إلى شخص محدد وبذاته، وإنما الحب الحقيقي هو مثل الشمس لا تستثني منزلاً من دون آخر، الحب الحقيقي هو كالنهر عندما تنطلق جداوله، فإنها لا تذهب إلى شجرة من دون الأشجار الأخرى.
هذا هو ما نسميه الحب الحقيقي، وهذا هو سر وحقيقة الحب الحقيقي، لأنه قادم من مكان غير الرغبة الجسدية، إنه يأتي من منطقة تسبق وجود الرغبة، لأنه متكون في الروح والروح هي المنطقة القصوى لهذا الحب والذي لا يكون صاحبه خادماً للمحب، وإنما هو خادم للحب.
هذه هي معجزة الحب الحقيقي، لأنه أوسع من دائرة الوعي العادي، وأشمل من علاقة المحب والمحبوب في دنيا الرغبات الجسدية، وقد عوقبت رابعة العدوية عندما قالت - من كثر حبي لله، لم يبق مكان في قلبي لكره الشيطان - وبطبيعة الحال، فهذا تعبير مجازي، المعنى الغائر فيه هو أن الحب الحقيقي ليس جزئياً موجهاً نحو شخص، بقدر ما هو الحب الوجودي العالق دوماً في ثنايا الوجود الأكمل، ولكن لأن البشرية تعاني من سطوة الجزئيات تظل تقاوم ما يخرج عن العادة، لأن الإنسان نشأ على حب العادة، ولذلك قيل إن الإنسان ابن بيئته، وهذا مصطلح يخبئ في داخله خبث الأنا، وتعنتها، وجبروتها.
الإنسانية تعاني عدم الحب، لأن الوقوع في الحب الحقيقي قاسٍ ومؤلم، لأن هناك أنا تقاوم هذا الحب، وهناك أنا تشعر بالعدمية في وجود الحب الحقيقي، ولذلك فهي تسعى للتشبث بحبها المزيف الذي يمنحها السطوة والبقاء أطول مدة من دون الشعور بالتعب أو الضعف.