في الطقس الشتائي البارد ترفض الطفلة الصغيرة التخلي عن هواء التكييف، وترفض التحرر من الدوي الذي يشيع جواً من الضجيج المحبب لدى الصغار وأحياناً الكبار، وهذه هي الثقافة الجديدة التي اكتسبها الإنسان المعاصر في زماننا، حيث أصبح ترساً في الآلة السحرية التي استولت على مزاجه، وسيطرت على حاسته، وأصبح في الحياة يذعن لما تمليه عليه تلك القوة الخرافية العجيبة، الغريبة، الرهيبة، المهيبة.
في الحديث عن الإنسان والثقافة تقول الفلسفة: إن الإنسان ابن بيئته، وإنه جزء منها وليس كلها، حيث تتنازعه فكرة أن يكون مع العصر وليس خارجه، ولكن في معطف العصر تختبئ المفاجآت، مما يجعل هذا الإنسان أسير تلك المفاجآت، وعبداً لها، تأمره فيستجيب، تشير له فيذهب باتجاه سبابتها، تحدق فيه فيطأطئ، تحملق في وجهه فيرى نفسه في مرآتها صاغراً ضارعا، لا يستطيع أن يقول لا.
عندما ينام الطفل تنتهز فرصة سباته، وتطفئ المكيف، لكنه بعد برهة سوف يقفز مثل الملسوع باكياً شاكياً متأذياً من الصمت المريع، ويطلب فوراً إعادة الأمور إلى نصابها، وألا يتم العبث في هدوئه، وطمأنينته وسكينته.
ولأن أطفالنا هم الذين يقودون مرحلة التقدم للأمام، وهم الذين يملكون زمام مشاعرنا، وهم الذين تكفينا منهم دمعة تلمع بين الجفنين حتى نهرع لكفكفة دموعهم، وتجفيف مدرارها، وإعادة البسمة إلى شفاههم الرقيقة، وزرع البهجة على وجناتهم الرمانية البهية.
هؤلاء الأطفال استطاعوا بنهمة خفيفة أن يحققوا رغباتهم، وأن يجعلونا نتحمل عبء الفواتير الباهظة، فقط لأننا نسعى دائماً لأجل إرضائهم، ونعمل على إدخال السعادة إلى قلوبهم وتحسين بريق عيونهم، وتشكيل علاقة وطيدة بينهم وبين الحياة التي يعيشون، أما أن تظل تلك «المسجات» الرهيبة تبث أرقامها الهائلة، والتهديد بقطع التيار الكهربائي إن لم يتم دفع ما جاء في التحذير من أسعار، وقد تكون أحياناً مخيفة، وقد تكون مرعبة، ولكن من أجل عيون الصغار لا بد من تحمل الأرقام الكبيرة، ودفعها، بقلوب راضية، مرضية، ولا تخشى لومة الجيوب التي في أحيان كثيرة تشكو العوز، وخلو الوفاض.
أطفالنا لا يهتمون كثيراً بأموالنا، لا يعنيهم ما تعانيه جيوبنا، فقط لأنهم صغار ولا زالت الدنيا عندهم مثل أوراق التوت ناعمة الملمس لا تشكو من عسر، وعسى الله أن يبعد عن الجميع كل ما يكدر، وينكد، وعسى التيسير أقرب من التعسير.
اليوم للأطفال نظرة مغايرة عن كبارهم، اليوم الأطفال يعشقون الغرف المغلقة، والتي تنعم بضجيج المكيفات، وتصفيق مراوحها عند أسماعهم، وهذا شأن الجيل الذي يعيش مراحل الحركة الهادرة للآلة الحديدية، بدءاً بالعربات التي تمر في الطرقات مثل المجنزرات والدبابات، ومروراً بغسالات المنازل التي تهز جدران الغرف وكأنك تسقط تحت هدير زلزال عنيف، وانتهاء بصرخات الأمهات المنزعجات من شغب الصغار، والله يرحم أيام زمان التي كانت تنعم بسكينة منازل الخيام الشتائية، ومما يعرشون صيفاً، قد ينتقد البعض قائلاً: وماذا عن الحياة الشحيحة؟ سنقول: هذا شأن كل فرد، ولا يمكن تطبيق النظرية الواحدة على ملايين البشر، فلكل امرئ من دهره ما تعود.
صحيح أننا نحب الحياة المرفهة، ولكن يبقى للحنين بقية في العقل الباطن، هذه المحفظة الفطرية العريقة.