عمود الزميل والصديق «علي أبو الريش» بالأمس أدمع عيني على ما تذكر من أصدقاء الحرف والكتابة، لذا استعير عنوان عموده، وأوسمه برقم -2- كجزء مكمل لوجع الغياب، وحنين التذكر لأصدقاء كانوا بيننا، وغادرونا في غفلة منا؛
-    ناصر جبران السويدي: ماذا لو تركوا الخيل تمضي.
    ما أصعب ذلك الرحيل الذي يصطبغ بلون الرماد المحروق، وبسرعة خفقة جناح غراب، ضَل الخرابة التي ينعق فيها، فأتى بشؤمه مباغتاً، واستل من بيننا أفضلنا، ناثراً الحرقة في عيون الأصدقاء الذين كذّبوا ما سمعوا، وهالهم خبر النعي، فالرجل كان هنا بينهم، وكان يفكر معهم، ويحمل أوراق إبداعه، ويسأل عن هذا الذي سرقته الدنيا عنهم، وظل يحوم كطائر فقد ملاذه، وما عاد يُبين، ويعود ذاك الراقد على سرير الوجع في أرض الصير، ولا يود أن يعود، يخاتل ساعات النهار مرة مع صديقه «إبراهيم مبارك» متغلبين على ضجر ساعات التقاعد، فرحين بملكية الوقت، وفضاء المكان المطلق، ومرة يقضي تجواله الصباحي على إيقاع تفاصيل يعشقها، غير بعيد عن ساحل عجمان، وخيرات بحر الخليج، على مصطبات صيادين صلّوا فجرهم في البحر، وغبشوا برزقهم الحلال نحو المدن، ومرات يتبع ظله، وحده من يقوده لأماكن كأنها نحتت من أضلعه، ويعشقها مثل ماء عينيه، يجس أحوال أهله الأولين والباقين، روائح الأمس الجميل.
-    مريم جمعة فرج: فيروز.
    صوت إماراتي، وصوت نسائي متميز في الكتابة القصصية، لها من خصوصيات السرد من لا يعرفه غيرها، ولها في نبش الذاكرة تلك المسافة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من القاع، ومن المسكوت عنه، ومن خصوصية الطرح في الشائك والمختلف، كانت هي والخجل ظلين، حتى أنها تطبع كل شخصية تلتقيها بطابع خجلها مدة اللقاء، فلا أتذكر أني التقيتها، إلا وكنت مثلها خجلاً، وحيناً أخجل عنها بأثر رجعي، كان لها صوت من الهمس كالحمام، بالكاد تسمعه، حتى تكاد تشك في مسمعيك، كانت وفيّة لأشيائها، مخلصة لقلمها، وكانت أكثر وفاء لأمها، مريم كانت جديرة بالالتفات، لقد قالت كلمتها بصدق وخجل ورحلت مثل حمامة لا تريد إلا السلام.. فسلام عليك يا مريم حتى مطلع الفجر.
-    حبيب الصايغ: هنا.. بار بني عبس.
    حين يرحل صديق، تشعر أن بعضاً من أضلعك تهشم فجأة أو أن ظهرك قد كُشف على أعدائك المتربصين بالأذى، وحين تستشعر فقده المتماهي مثل سراب متناه، لا تقدر أن تتنفس بملء رئتيك، وكأن عليك ثقلاً من رصاص مذاب وتراب، وكأن وطأة كائن خرافي تحط على عظام الجمجمة، وحده القلب يظل مثل طائر يرفرف يبحث عن ظل قد يمر، عن همهمات حديث دار بينكما هنا أو هناك، عن تفاصيل صغيرة تتقاسمها زوايا الأمكنة أو تخزّنها النفس عادة للحظات المِحَنّ والحنين، أيها الأصدقاء..حين يغيب أحدكم ذاك الغياب نحو ظلمة الوحدة، وبرودة الزرقة، يشعر الصديق أن أركاناً فيه تزعزعت، وما عادت كيفما كانت، كأن تسند صديقاً أو تعضّد أخاً أو تكون جسراً للمارين من النبلاء والشرفاء، فجأة.. يخيم عليك أيها الصديق الصدوق شيء مثل الخواء أو تُفَرّغ من داخلك، فلا يبقى شيء من الروح إلا صفيق الريح وصدى الهواء، وحدهم الأصدقاء الجميلون من يفعلون ذلك، حين يعلنون فجأة بأن لا دفء بعد اليوم، ولا عنب يعصر في المساء، ولا أغاني يمكن أن يرددها كمان عاشق.. أو قصيدة تتسع للصائغ حبيب، وغداً نكمل