كان ذلك الركن الهادئ «ركن التعارف» سبيلنا الوحيد الذي نطل به على العالم، ونتعرف على الإنسان البعيد، ولو كان هذا الإنسان البعيد بعد مدينة الشارقة، لذا كان سفرنا الأول والقديم فقط من خلال هواية المراسلة وتبادل المناظر الطبيعية، لكننا لم نسأل أنفسنا حينها وبعدها، لِم كانت هذه الهواية منتشرة على مستوى الوطن العربي؟ ومن نشرها غير الصحف والمجلات؟ وهل لها أساس عند الأوروبيين والأمريكان؟ كنّا نبعث بصورنا الشمسية ذات المقاس الموجود على جوازات السفر، ونحرص على تلك الابتسامة الفاترة مع ورد بلاستيكي أجبرنا على ظهوره في الصورة «العكاس» أو صاحب الاستوديو ، ونظهر ثلاثة أقلام في جيب الصدر، دليلاً على المعرفة المزعومة، ونبين الشعر «الخنافس»، كموضة سائدة حينها إلى المجلات لتظهر في ركن التعارف، ونحرص أن نكتب «من هواة مراسلة الجنسين»، ولم يكن يومها من وسيلة للتواصل إلا ذاك الصندوق البريدي، وتلك الرسالة المنتظرة، والتي نقرؤها أكثر من مرة، ونحرص على سرعة الرد، وتنميق الرسالة بالورود، وبالقلب الجريح وسهم «كيوبيد» الذي يخترقه، إذا كانت الرسالة تخص «هواة مراسلة الجنس الناعم أو الجنس اللطيف» كما كان يكتب وقتها، وثمة اعتناء بالخط، وبعضنا لا ينسى أن يشكر على الظرف «ساعي البريد» أو «شكراً لموصله».
كانت هوايات بريئة ومفيدة ومسلية، وفيها من التجمل والمزايدة، خاصة حين نصف لصديق المراسلة تضاريس بلدنا، فعادة ما نكسو الجبال الجرداء بالخضرة، والفلج قد يصبح «نهراً سلسبيلاً»، وهواء السموم يصبح «نسيماً عليلاً»، والنخل لا بد وأن تكون «باسقات تسرّ الناظرين»، ولا بد من وجود حدائق غَنّاء في الوصف الإنشائي، ونحن نئن من الحر والرطوبة و«اللغط»، وأول رسالة لزامٌ أن تكون مصحوبة ببطاقة بريدية لمنظر طبيعي عن البلد أو «كرت بوستال»، وهي لم تكن بأجمل من واقع الحال، يكفي فقط أنها تبدو راكدة، لا نقع غبار، ولا شمس تحرق عين الطير، طبعاً.. مع تلك المناظر غير الخلابة، دعوة لصديق المراسلة بتمنِّي زيارته لبلدنا، وهي عزيمة أقرب للهزيمة، ولَك عليها، لأنه ليس فيها كثير من حرارة الإصرار، أما تلك الدعوات التي نتلقاها من «صور» الجنس اللطيف بزيارة بلدهن، فيقف دونها كثير من الأسئلة، تخاف أن تظهر «شيفتها شيفة»، وتظهر الصورة غير طبق الأصل، ومرات نقول: يمكن يظهر رجّال خلف تلك الصورة التي ربما تكون مسروقة، خاصة حين تكثر الطلبات، ومرات تتحسب الأمور مثل التي عندنا كل أخ لا بد وأن يكون متذخراً بـ«محزم ممزور» أو أقلها «شوزن» أم ماسورتين.
اليوم لا أدري إن كانت لدى الجيل الجديد هوايات مماثلة، وبطرق مختلفة غير تقليدية، أم أن العالم تقارب، وأصبح قرية صغيرة، بفضل وسائل المواصلات والاتصالات والتواصل الذكي والسريع، فما عاد هناك ما يسر القلب، لكي نبحث عنه، ليدخل لنفوسنا شيئاً من البهجة، لقد غابت الدهشة من عالمنا الحاضر.
تلك مرحلة من الوقت ذهبت بأشيائها، وغادرت بناسها، ولم تعد ثمة رسائل في صناديق البريد، وهجر ساعي البريد مهنته، وحقيبته الجلدية، ودراجته الهوائية، وامتشق نقّاله مثل الآخرين، واقتصر على «المسجات والتشات»!
اليوم.. أصبحنا، جيل الستينيات مثل جنرال الروائي «غابريل غارثيا ماركيز» المتقاعد، الذي لا يجد أحداً يراسل الجنرال في زمنه الهارب.. يا سلام على زمن ركن التعارف، وهواية جمع الطوابع والمراسلة!.