ارتباطي بأصيلة المغربية وكل صيف فيها، وكأنه لن يتكرر، امتد منذ سنوات بعيدة، خاصة وأن المدينة هي في حد ذاتها مبهرة، فكيف وهي تجمع أجمل عقول الثقافة والفن والفكر؟! فمنذ سنوات طوال كانت على موعد مع الجميلين والمبدعين من شتى بقاع العالم، فقد صنع ابنها البار «محمد بن عيسى» من مهرجانها محجاً، ومن «أصيلة» قبلة سياحية، وذات صيف، ولعله الأول لي فيها، كنت مدعواً للمشاركة كمحاضر ومتحدث في مهرجانها الثقافي والفني، فحرصت كعادتي التي أحبها، ولا أريد أن أتخلى عنها، على عدم إرباك المضيف أو التكليف على السفير وطاقم السفارة، رغم أنهم أصدقاء، ويخدمون الناس بعيونهم، ويلومونك، لكنها النفس وما تهوى، لا كما يطيب للكثيرين فعلها، وجعلهم يأمرون بسيارة تنتظرهم في المطار، ورجل علاقات عامة، قد يكون منهكاً ذاك النهار، وربما لم يكن على ما يرام مع «المدام»! ويكلف بانتظار ضيف لا يعرف وجهه نهار الجمعة، وحدها تلك اللوحة الورقية المتهالكة، والتي كتبت بخط رديء، وعلى عجل، يمكنها أن تدله على تلك الجثة التي تسحب ثلاث حقائب، فيها أشياء كثيرة غير ذات جدوى، لكنها مرتبة بعناية فائقة، لا تقدر عليها النساء، بحيث القبعات في جانب، والأحذية نائمة في أكياسها المخملية، ولكل يوم لبسة صباحية وأخرى مسائية، وتكفي لأيام طوال، كل هذه التفاصيل سيختصرها موظف العلاقات العامة بابتسامة مجبر عليها، وبشد اليد بحرارة مبالغ فيها، ثم ترمى حقائبك التي تزهو بعلامتها التجارية، وكأنها صناديق فاكهة خامجة منذ أسبوع، وسيتكلف بالحديث والترحيب الذي ملّ منه طوال الطريق من المطار إلى الفندق، لذا حضرت لوحدي وبحسب وقتي، خفيفاً، مريحاً، مرتدياً ملابس صيفية رياضية، فيها زهزهة الصبا، ولون الشباب المرح، لطبيعة المدينة، وصيفها البحري، ولأن فعاليات المهرجان طابعها غير رسمي، لذا خاب ظن الذين يتوقعون حضورك بزيك الرسمي، وصورتك النمطية، لأنك مفرز من دول الخليج النفطي، لكنك كنت متأبطاً تلك «الكاميرا» كشاب مهاجر إلى أميركا اللاتينية، خفيف التحرك، لاصطياد لقطات تعدها من أجمل الأشياء التي تظفر بها أثناء السفر، فتصرفت بطبيعتي التي أود دائماً أن أكون فيها غير مثقل على النفس، ولا على الناس المضيفين. لكن موظفي المهرجان، وبعض المشاركين العتاة، والضيوف السنويين، والجهات الإعلامية لزموا حيالي التجاهل التام، ومعاملتي على أساس أنني مصور فوتوغرافي جاء ليغطي الفعاليات، وشاب قليل الخبرة كما توحي ملابسه الكتانية ذات الألوان الذاهبة تجاه المرح والمشاغبة وقلة الحيلة، وأنه ربما يفضل أن يجلس في قهوة على الرصيف مع بعض السائحات الأجنبيات على أن يملأ رأسه الفارغ بمصطلحات أدبية ونقدية، كالسيميائية والأنطولوجية والديماغوجية.
في البداية لم أعر المسألة اهتماماً، فقد تعودت على مثل تلك النظرة السطحية، والحكم الأوليّ، بحكم المشاركات الكثيرة في المؤتمرات، لكن مع انقضاء أيام المهرجان الأولى، وتلك المعاملة غير المكترثة، وما تولده طريقة التعامل بمكيالين، وشروط الأفضلية التي كنت أجهلها عند موظفي العلاقات العامة، ومسؤولي المهرجانات الذين يفضلون لابسي ربطات العنق في الصيف، وبدلهم الرمادية والبنية المتهالكة، ثم إنه الخجل الذي يضع الإنسان الحساس عالياً، ولو على حساب النفس والكيس، فقلت: في المدينة بحر، وإرث، وأسواق، وحِسان يبرّدن على الفؤاد، فلِما أضع القلق وسط كل هذه الأشياء الجميلة، ولأعش أيامي هنا، كما تهوى النفس، فليس أثقل عليها من الغداء بورقة «فاوشر» مثل أي قائد كشفي أو الأكل من «بوفيه» شبه بارد وممل، وبايت من الأمس، أصيلة تحب الناس العِفاف، والملابس الشفاف، والأكل الخِفاف.. وغداً نكمل.