كانت زمان أيام بداية الطريق نحو الثقافة والأدب والإعلام، تعد اللقاءات الثقافية والمؤتمرات الأدبية أو الإعلامية أُمنية ليتها تتحقق، لكن مع الوقت والتجارب وكثرة الفعاليات الإبداعية غدت من مثقلات الأمور على النفس، خاصة في المؤتمرات ذات الطابع الفكري، والتي تتسم بالجدّية المصطنعة، والتّزمّت، وعدم الابتسام إلا للضرورة وللنساء، وثَمّ تقتير، وبخل في أمور صغيرة، وذلك التزاحم على «بوفيه» ذي توقيت ممل، وصحون شبه باردة، والذي لا يتغير كثيراً، أو التسابق مع أولئك الشغوفين بالصورة الملونة، على الطاولة الأمامية، حيث يكثر اللكز بالأكواع، وشق الصفوف بكتف غير قانوني، وتطاول بالأعناق للفوز بلمعة «فلاشات» المصورين، وتصدّر صفحة في الجريدة مع الراعي الرسمي أو عليك الانتظار حتى يمتلئ «باص» الوفود الرسمية، ثمة أشياء في الحياة ثمنها دراهم معدودات، لكنها مصحوبة بفرح في الداخل، فلتتبعها، وعفّ عن المجانية التي لا يقدر عليها وجهك، ولا سماحة النفس.
قرب موعد الجلسة التي سيشارك فيها اثنان من الروائيين العرب الكبار: الجزائري «واسيني الأعرج» والمصري «جمال الغيطاني»، والمستشرق الأسباني «بيدرو مارتينيز مونتابيث» وذلك الشاب ذو الملابس الصيفية، و«الكاميرا» التي تثقل كتفه، ويديرها وزير خارجية المغرب الأسبق، رئيس المهرجان «محمد بن عيسى»، خشيت أن ينصرف عني الجمهور إن وضعت كآخر المتحدثين، وبذلك يوافق الظرف تجاهل المدينة الرسمية، ونظرة بعض المنتدين الذين تخطوا السبعين لفتى ظنوا أنه غِرٌّ، وحدها تلك المدينة الشعبية والتي أحب، بقيت تحتفي به كدرويش عابر.
اعتليت المنصة غير متخل عن كاميرتي، ولا عن تلك الملابس الكتانية البحرية، ولا عن القبعة ذات القصة الإيطالية، وحاذيت أناساً أكتافهم أعلى مني قدراً، وعلماً، وشرفت أنني بينهم، وسعدت أن الظروف جعلتني منهم، فألقيت ورقتي وسط استحسان الجميع، ودهشة الكثير من أصحاب حروف الدال التي تسبق أسماءهم الطنّانة، والنقاد المتكلسين، والأكاديميين الذين لا يتخلون عن بدلهم البنية الداكنة صيفاً، والذين كانوا يرمقونك بنظرات توحي بشماتة الجهل، يكفي أن كبيرهم الذي علمهم النقد، وعدم صرف النقود، تنازل عن بخله العاطفي، وقال: ورقة جميلة ومختلفة، وتجربة جديدة من مكان بعيد، فصدّق ما في داخلي، أنني لم أتخل يوماً عن الثقة بالنفس المبنية على مرجعية معرفية، والمدعومة بتجربة الحياة والناس والأسفار، والسهر والتعب على تمكين وبناء الذات.
وقبل انتهاء الندوة تساءل رئيس الجلسة، مدير المهرجان، موجهاً سؤالاً طائراً، لا لأحد على التعيين، ويبدو أنه كان يقلقه منذ زمان، لِم نقول دائماً: رئيس الجلسة، ولو كانت تديرها وترأسها امرأة، ولا نقول رئيسة؟ ووسط صمت البعض، ودهشة الآخرين، انبرى الشاب ذو الملابس الكتانية بمرحه الصيفي: «سيدي بن عيسى، وليسمح لي الحضور، العرب لا تؤنث الرأس، ولا ترئس الأنثى، فقط لا غير»، لقي الجواب استحساناً، وضحكاً من بن عيسى كثيراً، وتبعه الحضور، وغصّت به امرأة يبدو أنها من جمعية مناصرة المرأة المغربية.
شعرت بعدها بعودة الروح، وبفرح طفولي يرافق عادة النجاح، وبخبرة تدعم ثوابت في الحياة، وباعتناء مبالغ فيه من قبل المنظمين، وكأنه اعتذار بأثر رجعي، وتقدير جاء متأخراً قليلاً، وبهجمة من إعلاميين كانوا يعتقدون أن ما تلبسه على رأسك، يمكن أن يساوي ما في رأسك!