بعد طول انتظار، والمراوحة في الذهاب والجيئة على الرصيف، استند صاحبنا على جدار المقهى برجل، وتعكز على الأرض برجل مثل الصافنات الجياد، وهو يتأمل المارّة، ويناظر لساعته، ونكاد نسمع سبابه من حركة شفتيه التي لم تكن تحمد ولا تشكر بالتأكيد، واشتعال فتيل سيجارته المتسارع، دخل المشرب اثنان، أحدهما يلبس بنطالاً أحمر، والآخر أخضرَ فاتحاً، فاضطربت حركة صاحبنا، وكاد يعود لتمشيط الرصيف، تعالت القهقهات المتغنجة التي كان يسرّبها باب المقهى كلما فتح، وضحكات مثل صهيل النساء الأرامل الطروبات.
في البداية، وحينما حدثنا لاحقاً، كان يعتقد أن هذا المشرب خاص بالطلبة أو تابع لأحد الأندية الإنجليزية التي تهتم بالنشء، والفريق الرديف، لكن مساحيق التجميل المبالغ فيها، وعطوراً على غير عادة الإنجليز، وتلك الطاولات التي تجمع كل واحدة منها خليطاً متأنثاً في الملبس، وألواناً أقرب للون «الشربت»، وتلك اللحى التي ليست على رجال ممن يعدهم صاحبنا «إخوان شما»، غيرت نظرته، تجمّد بعد أن التفتت له الأعناق اللينة، «اعتزى» وانسل من الباب بعدما لمح حركة غير عادية، خاصة وأن هناك نَفَراً من أصحاب الدراجات النارية، وأصحاب الوشوم مثل المتسكعين في حي «سوهو»، وآسيويين من بحر الفلبين، يأسفون على زمن البحرية الأميركية، وغاب ذلك الإنجليزي، وتلك الرصانة، والتقليد الأرستقراطي المحافظ، كانت الشوارب الطويلة، والكثة، والمعتنى بها، والمصفَرّة من التبغ الحار، تملأ وجوه البحارة، والمغامرين في المستوطنات البعيدة، أيام كان «اليعري» الإنجليزي عن سبعة، وبلا بندقية، الآن كل الذي رأه بناطيل جلدية سوداء مرصصة، وبُنية نباتية، والشعر رطب من «الجل» يوحي لك الواحد منهم أنه للتو خارج من حمام خالته، وذاهب مباشرة لمقر عمله في قسم الملابس النسائية في محلات «هارودوز»، ووجوه أشبه بوجوه المهرجين المنهكين.
مر الوقت على صاحبنا، وكأنه دهر، وشعر كأنه مرمي على سيف البحر، لائثاً في مكان بلا ملامح، استوقف شخصاً مارّاً، حينما تأكد من سحنته أنه منهوك من ضجر لندن، تحادثا، وأخرج له الورقة، وناظرا لوحة المشرب، وتبادلا هزات الرأس، وانصرف، بقي صاحبنا حائراً، ثم قرر أن يدخل المشرب يقدم رجلاً، ويؤخر الأخرى، ابتسامة الأفريقي الحامضة، والذي يرتدي السواد، أعطت لجثته دُغل الغاب، وشعره المحلوق والمُزَيّت صنّفه أنه من خدمة المعبد، وحراسه الليليين، كان المكان عامراً، وهناك وشوشات مثل ارتجافات العصافير المبلولة، ودخان يعبق به المكان، اثنان من المعضلين، واقفان يتناجيان، لو شَبَر زند كل واحد منهما لكان كبر الجذع، ظل يتساءل طيلة بقائه في لندن، عن سر هذه الكتل العضلية، وسر الحلق في الأذن، فيردد متأسفاً: «يا خسارة ذاك اللحم، إلا أمبونه اللحم في الثيران، والسم في الغيلان»، حاول أن يجد له طاولة فقط ليلتقط أنفاسه، وحين جال في المكان، وتبصر في الجالسين، استشعر أن المكان ليس له، فقد كثر الدقّ والوشم، وكثرت أقراط الأذن، فخرج هارباً، ليجدنا نضحك، ممسكين بخواصرنا، فكانت أول ردة فعله، أن قال: «أنتم أصلاً مَخَمّة.. مب رياييل، وهذا المكان مكانكم»!
بقينا نراضيه طوال إقامتنا في لندن، وكلما وددنا أن نذهب إلى أي مكان، يحلفنا أن المكان الذي سنذهب إليه لا يشبه مقهى ومشرب «خيل البحر».