ليت بعض الوجوه.. لا تغيب عن سمائنا، ولا يخلو قاع دنيانا من خطوات أقدامها التي تشبه البركة وظلها البارد، بعض الوجوه تمر هكذا.. كنسمة باردة على الناس والحياة، ترى في مُحياها السماحة والوداعة والخير الكثير، تراها فيتسرب إلى جوفك فجأة، شيء مثل رائحة فجر ندي، أين ما وطأت قدماها اخضرّت الأرض واستبشرت، وأدخلت من وقتها وسرورها الشيء الكثير في صدور الناس، وبقي طيفها يغشى الناس بالحسنى والمعروف والكرم الكثير.
هكذا يتراءى لي «أبو خليفة» كلما دخلت العين، مدينته التي رأت أول أحلامه، وانطلق منها بكبير وكثير أحلامه، أراه ما زال كما هو في حلّه وترحاله، أرى سيارته بعلمها الصغير يرفرف وهو يصل داره، ضافياً عليها من كثرة خيره، وسهالة ميره، فيكون قدومه السعد، ومراحه الوعد، ومسكنه حبة العين.. أتذكره اليوم بصدق الرجال، وبطعم كل الخير.. فتدمع تلك العين لذلك الوجع الذي حدث مرة، ولم ينته.
هكذا.. أعادتني الأمور بعد أن قرأت كتاب الأستاذ القدير، وأحد شهود تلك المرحلة «عبدالغفار حسين»، والمرسوم بعنوان «شاهد على عصر زايد»، الباني والمؤسس، والرجل الحالم دوماً بقوة العرب في وحدتهم، وعزهم في توحدهم، وهو ما ينقصهم عبر سنوات مضت من تاريخهم، كان رجلاً حكيماً، ويرى الأمور بعيدها وقريبها بعين المتأمل، ثم بعين الفاحص الفاعل، كان متوازناً، فللكلمة موضع، وللسيف موضع، وما قد ينجزه الحلم، ويسده المال، لا يبعث له الرجل الغضوب، ولا قصير اليد.
هكذا بنى الشيخ زايد هذا الوطن، بالحب والتعب، وكان له العضد والسند الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، عليهما الرحمة، ولهما المغفرة، وخير جزاء المؤمنين، فالأوطان تبنى بالصدق، وأساسها الصبر، وبناؤها الحكمة والجلد، ونجاحاتها منطلقها الأحلام الكبيرة والبعيدة، وحرّاسها الوطنيون والأمناء والشرفاء في وعدهم وعهدهم. 
مرحبا هلا حي بالشهامه 
 مرحبا بالصقور المخلصين
ضامنين الوطن صانوا احترامه 
 قدرهم عندنا عالي أو ثمين
هم حماة الوطن يوم ازدحامه 
 يوم ولد الردي كابي أو مهين
 جمعنا كالجبل عسر الصّدامه 
 والنّشاما لهم علم يبين
قالها زايد وارتحل، تاركاً وصايا على الصدر مثل الرحى الثقال، وتاركاً جسوراً من حرير، غير أن الوطن هو المبتدأ والإنسان هو المنتهى، اليوم.. الإمارات بفضل زايد الذي كان صابراً حامداً، شاكراً لربه وساجداً، هي مختلفة، ورائدة، وخطواتها بإيقاع الزمن واثبة، وأحلامها ما زالت تتخطى الأفق، فحين يتعاضد الكبار، تزهو الأوطان، وحين يتعامدا «المحمدان» في سماء الوطن، تتجلى الإمارات فخراً ومجداً، فلمثل «أبو خالد وأبو راشد» ترفع عمائم الرجال، ومن أجلهما تسل السيوف من أغمادها، فغضبة أحدهما لها ألف ألف سيف يغضب، وفي شفهما يتسابق الناس ف «لاهما لا.. ولا.. ولا»، و«نعمهما» يقلطان على الشارب واللحى، ويفديان بالنفس، وما تحمل الأم من ولد، لا أحد يدرك معنى ذلك الحب الذي يخبئه المخلصون لأوطانهم، ولا أحد يمكنه أن يدرك كيف هو الإخلاص والولاء من إنسان هذا البلد لعماد البلد وأوتادها.
هنا.. في الإمارات، ثمة معادلة جلية المعنى، غزيرة المبنى، لكن أرقامها صعبة، وحروفها غلقة، لا يفكها إلا من شرب من ماء جبال الإمارات وأفلاجها، إلا من عرف بحار الإمارات وسار في أفلاكها، إلا من استظل بنخيل الإمارات وظلال أشجارها، أن الحب لا ينشطر، وأن الود إما مكتمل أو مكتمل، وأن الوطن كله الإمارات، وأن الإمارات غرس زايد وراشد والمؤسسين، وإن غاب الأب، حضر الابن، وحضرت معه وصايا الخير ومعاني الأكفّ البيضاء، والقلوب السمحة، والبصائر التي ترنو لبعيد من أجل الأجمل والأفضل للإنسان والأرض، وكأن الذي خَلّف ما مات، و«أبو خالد» في وعده وعهده الإمارات بخير، ومختلفة، وجميلة، ومكانها عالي المشاريف، ومكانتها كبيرة في قلوب الجميع.