الخميس 18 ديسمبر 2025 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
اقتصاد

رحلة الذهب عبر العصور.. كيف أصبح قلب الاقتصاد ومرآة الثقة العالمية

رحلة الذهب عبر العصور.. كيف أصبح قلب الاقتصاد ومرآة الثقة العالمية
18 ديسمبر 2025 12:58

إسلام العبادي(أبوظبي)

في عالم يهيمن عليه المال الرقمي، حيث تتحرك الأصول المشفرة في فضاء افتراضي لا ملمس له، يظل الذهب صامداً، كأنه يرفض أن يغادر التاريخ. إنه المعدن الذي تحدى الزمن والتكنولوجيا والابتكارات المالية الحديثة ليبقى مرجعاً ثابتاً وملاذاً أخيراً يلجأ إليه الجميع حين تعصف الأزمات الاقتصادية.


هذا المشهد يثير سؤالاً جوهرياً.. كيف لمعدن أصفر، بلا عائد مباشر ولا أرباح ملموسة، أن يظل المقياس الأصدق للثقة العالمية بالاقتصاد؟ تكمن الإجابة في قصة الذهب نفسها. فهي ليست حكاية سلعة عابرة، بل سجل حي لتطور الثقة الإنسانية، رحلة بدأت كحِلية لامعة تتزين بها الحضارات القديمة، ثم تحولت إلى العمود الفقري للنظام المالي العالمي، قبل أن تستقر اليوم في مكانها الأبدي، قلب الاقتصاد، حيث يظل الذهب رمزًا للثروة والاستقرار، والمقياس الأصدق لقيمة المال والطمأنينة عبر العصور.

 


المحطة الأولى: اختراع "الثقة" في ليديا


قبل أن يصبح الذهب مالاً كان جميلاً. بدأ تاريخه المعروف في أوروبا الشرقية حوالي 4000 قبل الميلاد، حيث استُخدم لصنع أشياء زخرفية. لآلاف السنين، كان الذهب رمزاً للخلود والسلطة، وغالباً ما كان يمثل الشمس. حتى عندما استخدمته الإمبراطورية المصرية القديمة "كوسيط رسمي للتبادل" حوالي 1500 قبل الميلاد ، كان لا يزال يعاني من مشكلة عملية، كان على التجار وزن واختبار نقاء المعدن عند كل معاملة باستخدام "حجر المحك".
ومع مرور الوقت، جاء الابتكار الذي سيغيّر اللعبة إلى الأبد من مملكة ليديا، في تركيا الحديثة. فحوالي عام 560 قبل الميلاد، لم يكن الملك كروسوس أول من سكّ العملة، لكنه كان صاحب الخطوة العبقرية، إصدار أول عملات معدنية من ذهب خالص وفضة خالصة، لتصبح معيارًا جديدًا للثقة والتبادل. الأهم من ذلك، أنه وضع عليها "ختم الملك".  لم يكن هذا مجرد اختراع لعملة معدنية، بل كان اختراعاً لـ "الثقة الموحدة" التي ترعاها الدولة. لم يعد التاجر بحاجة لاختبار المعدن؛ لقد أصبح يثق بـ "ضمان الدولة". لقد نقل كروسوس الثقة من المعدن نفسه إلى السلطة التي تقف خلفه، وهي اللحظة التي وُلد فيها المال الحديث.

 

المحطة الثانية: هوس "الميركانتيلية" وثمن النهب


بعد قرون، تحوّلت وظيفة الذهب من مجرد ضمان اقتصادي إلى هوس حقيقي. ومع صعود الإمبراطوريات الأوروبية في القرن السادس عشر، برزت نظرية "الميركانتيلية" (Mercantilism) التي هيمنت على التفكير الاقتصادي. كانت العقيدة بسيطة وخطيرة في آن واحد: ثروة العالم ثابتة ومحدودة، والطريقة الوحيدة لتصبح دولة ما أغنى هي أن تجعل دولة أخرى أفقر. وهكذا أصبحت التجارة "لعبة محصلة صفر".. في هذا العالم، كانت الثروة تُقاس بشيء واحد وهو كمية السبائك من الذهب والفضة المكدسة في الخزائن. وأصبح الهدف الوحيد لكل دولة هو تحقيق فائض تجاري دائم لضمان تدفق الذهب إلى الداخل. كان هذا الهوس هو المحرك الأساسي للبحث عن الذهب والفضة في العالم الجديد.


استخدمت الإمبراطورية الإسبانية القديمة أنظمة عمل قاسية، مثل "الإنكوميندا" (Encomienda) ، لاستخراج كميات هائلة من المعادن الثمينة من الأميركيتين. وطوال القرن السادس عشر، كانت السبائك تمثل "80% على الأقل" من قيمة جميع الشحنات المتجهة إلى أوروبا. ولكن التاريخ لم يرحم هذا التدفق الهائل للذهب، الذي جعل الإمبراطورية الإسبانية الأغنى في العالم لفترة وجيزة، ثم دمر اقتصادها في النهاية.

تسبب في تضخم مفرط، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 400%. وبدلاً من أن يبقى الذهب في مدريد، "تدفق عبرها" لتمويل الحروب وشراء السلع من دول أكثر إنتاجية ، مثبتًا أن تكديس رمز الثروة يمكن أن يدمر محركاتها الحقيقية. ومع انهيار الهوس بالمكدسات الذهبية، جاء عصر جديد من الانضباط النقدي، الذهب أصبح أكثر من مجرد ثروة، أصبح أساس النظام المالي العالمي". 


المحطة الثالثة: "القفص المذهب" والانضباط العالمي


مع بداية القرن التاسع عشر، ومع مرور الزمن، وصل الذهب إلى ذروة قوته فيما عُرف بـ "معيار الذهب الكلاسيكي" (1880-1914). لم يعد الذهب مجرد ثروة تُكدس، بل أصبح هو النظام النقدي العالمي نفسه.

في هذا النظام، قامت كل دولة كبرى بربط عملتها بكمية محددة من الذهب. في الولايات المتحدة، تم تحديد السعر عند 20.67 دولارًا للأونصة. كان النظام يبدو وكأنه آلة دقيقة "تصحح نفسها ذاتياً".

ومع مرور الوقت، ظهر الوجه المزدوج لهذا الانضباط: النظام كان يُدار بانضباط حديدي من لندن، لكن كان "قفصاً مذهباً" يفرض ثمنًا باهظًا وتقلب عنيف في نمو الدخل، وبطالة مرتفعة، وتقييد أيدي الحكومات في استخدام السياسة النقدية لمكافحة الركود.


في هذا النظام، قامت كل دولة كبرى بربط عملتها بكمية محددة من الذهب. في الولايات المتحدة، تم تحديد السعر عند 20.67 دولارًا للأونصة. كان النظام يبدو وكأنه آلة دقيقة "تصحح نفسها ذاتياً". إذا واجهت دولة عجزاً تجارياً، يتدفق الذهب منها للخارج، فكان عليها اتباع ماعرف بقواعد اللعبة: "رفع أسعار الفائدة" لتقليص المعروض النقدي وجذب الذهب مرة أخرى.  كان هذا النظام يُدار بانضباط حديدي من لندن.


كان بنك إنجلترا، كما وصفه كينز، "قائد الأوركسترا الدولي"، يدير فعلياً تكلفة الائتمان للعالم بأسره.  لكن هذا النظام كان "قفصاً مذهباً"، فضيلته الكبرى كانت الحفاظ على استقرار الأسعار على المدى الطويل؛ إذ بلغ متوسط التضخم في أمريكا نحو 0.1% سنويًا. لكن ثمن هذا الاستقرار كان باهظًا.. تقلبات حادة في نمو الدخل، وبطالة مرتفعة بلغ متوسطها 6.8% في الولايات المتحدة.

 

والأسوأ من ذلك أنه قيّد أيدي الحكومات؛ فلم يكن بإمكانها استخدام أدوات السياسة النقدية، مثل خفض أسعار الفائدة، لمواجهة الركود. كانت الأولوية دائمًا لحماية ربط العملة بالذهب، حتى لو جاء ذلك على حساب وظائف المواطنين ومعيشتهم.

ومع تراكم الأزمات العالمية، بدأت التشققات تظهر في هذا النظام الصلب، كاشفةً هشاشة الاعتماد المطلق على الذهب، وممهّدةً الطريق لولادة معايير نقدية جديدة.. "لكن هذا الانضباط لم يدم طويلاً، إذ كشفت الأزمات العالمية ضعف الاعتماد المطلق على الذهب، مما مهد الطريق لمعايير جديدة".


المحطة الرابعة: الانهيار الكبير ومعركة بريتون وودز


مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، انهارت هذه الآلة الدقيقة، ثم جاء الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين ليكشف هشاشة الاعتماد المطلق على الذهب. خلال الأزمة، تعلمت الدول درسًا مهماً: تلك التي تخلّت عن معيار الذهب مبكراً، مثل بريطانيا عام 1931، بدأت التعافي أولًا. هذا الدرس حمل إلى مؤتمر "بريتون وودز" عام 1944، حيث خاضت القوى الكبرى معركة لتحديد مستقبل الاقتصاد العالمي. لكن الضربة القاضية جاءت مع "الكساد الكبير" في ثلاثينيات القرن العشرين. كشفت هذه الأزمة أن "عقلية معيار الذهب" كانت هي التي حولت الركود العادي إلى كارثة عالمية. "قواعد اللعبة"  تطلبت من البنوك المركزية أن تفعل عكس ما يحتاجه الاقتصاد تماماً: فبدلاً من ضخ السيولة، أُجبروا على رفع أسعار الفائدة لحماية احتياطياتهم الذهبية، مما أدى إلى تعميق الأزمة. 


 

تُظهر البيانات بوضوح أن الدول التي "تركت معيار الذهب مبكراً" مثل بريطانيا عام 1931 كانت أول من بدأ بالتعافي. كان الدرس المستفاد سياسياً.. لم يعد من الممكن إخبار الناخبين العاطلين عن العمل أنه يجب عليهم المعاناة للحفاظ على سعر ثابت لمعدن أصفر، هذا الدرس هو الذي حمله المفاوضون معهم إلى مؤتمر "بريتون وودز" عام 1944.

 في هذا الاجتماع التاريخي، لم يكن الهدف مجرد بناء نظام جديد، بل خوض معركة لتحديد مستقبل الاقتصاد العالمي.  المعركة في بريتون وودز كانت بين عملاقين اقتصاديين، "جون ماينارد كينز" البريطاني الذي اقترح إنشاء بنك مركزي عالمي وعملة عالمية جديدة تسمى "البانكور" و"هاري ديكستر وايت" الأميركي الذي وضع خطته  لإبقاء الدولار الأميركي في قلب النظام.

انتصرت خطة وايت. فولد "معيار الدولار الذهبي"، ووافقت جميع الدول على ربط عملاتها بالدولار، والتزمت الولايات المتحدة وحدها بربط الدولار بالذهب بسعر ثابت قدره "35 دولارًا للأونصة"، لصبح الدولار جيداً كالذهب، بل أفضل.

 ومع ذلك كشفت أوراق صندوق النقد الدولي أن البنوك المركزية الأخرى ،خصوصاً الأوروبية، استمرت في الاحتفاظ باحتياطيات كبيرة من الذهب الفعلي، رغم عدم إلزامها بذلك وتكلفته العالية. لم يكن هذا مجرد "عادة قديمة" ، بل تحوطاً استراتيجياً مبكراً، فقد وثقت هذه الدول في المعدن الملموس أكثر من وعد الدولار الأميركي، ومع التطورات الاقتصادية والسياسية بعد الحرب ،أصبح الذهب محور لعبة أكبر من مجرد الاحتياطات، مثبتاً أنه يظل رمز الثقة النهائي في النظام المالي العالمي.

المحطة الخامسة: "صدمة نيكسون" ونهاية الوعد



بعد عقود من العمل بنظام بريتون وودز، جاءت "صدمة نيكسون" عام 1971 لتغلق نافذة الذهب وتغيّر قواعد اللعبة مرة أخرى.. تحولت العملات إلى "نقد ورقي"، وأصبحت الثقة في الحكومة الضمان الأساسي لقيمتها. كان نظام بريتون وودز يحمل بذور انهياره، والمعروف باسم "معضلة تريفين" لكي ينمو الاقتصاد العالمي، كان بحاجة إلى المزيد من الدولارات، ولتوفيرها كان على أمريكا إدارة عجز مستمر. ومع زيادة الدولارات في الخارج، تجاوزت هذه الدولارات احتياطيات الذهب الأميركية، ما أدى إلى تآكل الثقة في قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بوعدها بتحويل الدولار إلى ذهب بسعر 35 دولاراً للأونصة.

بحلول عام 1971، كانت القنبلة الموقوتة على وشك الانفجار. واجه الرئيس ريتشارد نيكسون ضغوطًا مزدوجة، من جهة، "هجوم على الذهب" من الدول الأجنبية التي بدأت تفقد الثقة وتطالب بتحويل دولاراتها إلى ذهب فعلي، ومن جهة أخرى، ركود تضخمي داخلي يجمع بين التضخم والبطالة.

وفي اجتماع سري في كامب ديفيد، اتخذ نيكسون قراره، وفي 15 أغسطس 1971، ألقى خطابًا متلفزًا أعلن فيه "إغلاق نافذة الذهب"، معلنًا إلغاء قابلية تحويل الدولار إلى ذهب "من جانب واحد".

كانت هذه اللحظة صدمة للعالم، اعتبرها الكثيرون تخلفاً ناعماً عن السداد، وانهارت آخر محاولات الحفاظ على أسعار الصرف الثابتة. وبحلول مارس 1973، انتقل العالم إلى النظام الحالي، "أسعار الصرف العائمة" ونظام "العملة الورقية (Fiat)"، حيث أصبحت قيمة المال قائمة على الثقة في الحكومة التي أصدرته، لا على أي أصل مادي.

 

ومع سقوط بريتون وودز، لم يختف الذهب كما توقع البعض، بل بدأ فصلًا جديدًا أكثر مرونة وأدواراً استراتيجية، مثبتاً مكانته المستمرة كرمز للثقة والملاذ الآمن في الاقتصاد العالمي.


المحطة السادسة: الذهب "المتحرر" والحدود الجديدة


مع انهيار نظام بريتون وودز، تحرر الذهب من قيوده التقليدية، ليجد لنفسه أدوارًا جديدة في النظام المالي العالمي. لم يعد مجرد مقياس ثابت لقيمة العملات، بل أصبح أداة استراتيجية ومرجعية للثقة الاقتصادية، وملاذًا آمنًا في أوقات الأزمات.


اليوم، يظل الذهب عنصراً محورياً في رسم ملامح الاستقرار المالي، سواء من خلال احتياطيات البنوك المركزية، أو كمعيار للتحوط ضد المخاطر، أو حتى كرمز دائم للثروة والموثوقية. إنه معدن لا يقتصر دوره على القيمة المادية، بل يمتد ليكون مرآة تعكس حالة الثقة العالمية في اقتصاد متغير سريع الإيقاع.

وبعد أن فقد الذهب دوره التقليدي كمرساة للأنظمة النقدية، اكتسب أهمية استراتيجية أوسع. لم يعد مجرد معدن للثروة، بل أصبح يحتل مكانة محورية في الاقتصاد الحديث، متحرراً من قيوده القديمة ليؤدي أدواراً جديدة في قلب النظام المالي العالمي".

 



أولاً: الملاذ الآمن

أصبح الذهب مقياساً دقيقاً للثقة أو انعدامها، تظهر البيانات أن الذهب يرتفع خلال أوقات عدم اليقين الشديد، كما حدث في أزمة 2008 وجائحة كوفيد-19، بينما تنهار الأصول الأخرى، ما يجعله الحصن الأخير للاستقرار المالي.


ثانياً: التحوط من التضخم "أسطورة قيد المراجعة"

على الرغم من الاعتقاد الشائع بأن الذهب يحمي من التضخم، تشير تحليلات "معهد CFA" ودراسات أخرى إلى أن العلاقة بين الذهب والتضخم غير مستقرة، وأنه ليس تحوطاً موثوقاً طويل الأجل في اقتصادات رئيسية مثل الولايات المتحدة والصين.


ثالثاً: العودة إلى الخزائن

منذ أزمة 2008، كثّفت البنوك المركزية، وخصوصاً في الأسواق الناشئة، شراء الذهب بمستويات قياسية. هذا ليس تقليداً قديماً، بل خياراً عقلانياً، الذهب هو الأصل الاحتياطي الوحيد الذي يمكن عزله عن العقوبات ولا يحمل مخاطر الطرف المقابل، إذ قيمته لا تعتمد على وعود أي حكومة أخرى.


رابعاً: الابتكار التكنولوجي الصيني 

اليوم، تدفع الصين، أكبر منتج ومستهلك للذهب في العالم، حدود الابتكار في هذا المعدن الثمين. وقد أثار مصطلح "الذهب المُصنّع" بعض الالتباس، لكنه في الواقع يشير إلى ابتكارين مختلفين تماماً:

الذهب النقي الصلب (Hard Pure Gold) للمجوهرات: هذا الذهب ليس مخلقاً، بل يمثل تحسيناً في عملية التصنيع. إنه ذهب حقيقي معتمد بنقاوة 99.9% (عيار 24 قيراطاً)، ومعالج بتقنيات متقدمة مثل "3D Hard Gold" و"5D Hard Gold" ليصبح أكثر مقاومة للخدوش والتشوه، ما يحل مشكلة ليونة الذهب التقليدي ويتيح صنع مجوهرات متينة تصلح للاستخدام اليومي.

 

البديل الصناعي (Synthetic Substitute): يمثل هذا الابتكار جذرياً في الصناعة. فالعلماء الصينيون لم يخلقوا عنصر الذهب (Au) بحد ذاته، بل تمكنوا من تطوير مادة مركبة، غالباً من معادن أرخص، تم تصميمها لتقليد الخصائص الأساسية للذهب، مثل اللمعان، اللون، ومقاومة التآكل. ويُنظر إلى هذا التطور ليس كتهديد للقيمة المالية للذهب، بل كبديل صناعي عالي الأداء يُستخدم في الإلكترونيات وغيرها من التطبيقات الصناعية لتقليل التكاليف مع الحفاظ على خصائص الذهب الرئيسية.

 

الذهب ليس مجرد معدن ثمين؛ إنه مرآةٌ تعكس رحلة الحضارة الإنسانية بكل تحوّلاتها. فمنذ أن صكّ الملك كرويسوس عملاته الذهبية ليجعل منه رمزًا للثقة والسلطة، مروراً بتحوّل الذهب إلى "انضباط اقتصادي" يشدّ العالم إلى قواعد صارمة، ثم إلى وعد أميركي في نظام بريتون وودز، ظل هذا المعدن في صميم النظام المالي للبشرية.

وعندما جاءت "صدمة نيكسون" عام 1971، لم تُنهِ عصر الذهب كما توقع كثيرون، بل حرّرته من دوره كمرساة ثقيلة، ودفعته إلى لعب دور جديد أكثر ديناميكية، مقياس حساس لثقة العالم. لم يعد الذهب يحكم الاقتصاد، لكنه أصبح المؤشر الأدقّ على مزاج الأسواق ومقدار اليقين أو القلق في النظام العالمي.

  •  

ورغم انتقال المال من معدنٍ تُمسكه اليد، إلى ورقٍ يُطبع، ثم إلى إشارات رقمية تُخزّن في سحابة، بقي الذهب محتفظاً بمكانته الاستثنائية. فهو يجمع خصائص لا يجتمع مثلها في أي أصل آخر، الندرة، وطول العمر، وسهولة النقل، والاستقرار، والرمزية، والجمال. قيمته ليست في ذراته الصفراء فقط، بل في  رمزيته وجماله ودوره  الاجتماعي والاقتصادي الذي أدّاه عبر آلاف السنين. 


واليوم، في عالم تتسارع فيه التغيرات والتقلبات المالية، يظل الذهب، هذا المعدن الأبدي، يحتفظ بمكانته كمقياس راسخ للثقة والاستقرار.. إنه ليس مجرد مخزن للقيمة؛ بل معيارٌ يكشف بوضوح مقدار إيماننا، أو ترددنا، في الأنظمة التي نبنيها، وهكذا يبقى الذهب معدن الحقيقة ثابتاً، صامداً، مهما تغيّر المشهد الاقتصادي العالمي.

 

 

 





جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©