بقلم أحمد أبي عياض
ترجمة: أحمد حميدة
تكتسي اللّغة الإسبانيّة أهميّة خاصّة في مجال تعميق وعينا بالماضي وفي مساعدتنا على تحقيق معرفة أدقّ لقيمنا الحضاريّة والثّقافيّة والتّاريخيّة الرّاهنة، إذ غدت اليوم معبراً لا غنى عنه للقيام بأيّ مقاربة جديّة، حاسمة وفطنة، لذاكرتنا ولتاريخ العلاقات الإسبانيّة المغاربيّة. ولا يمكن لنا في هذا السّياق التّغافل عن أهمّية تدريس هذه اللّغة، وهي اللّغة المحمّلة بمكوّنات ومركّبات عربيّة، ثقافيّة ولغويّة، وكانت الأداة الناقلة للإرث العلميّ الخصيب للحضارة العربيّة الإسلاميّة.
وإذا كان تعليم اللّغات يخبرنا باستحالة الفصل بين تعلّم اللّغة من ناحية، وتداول العناصر المكوّنة لها، الحاملة لقيم حضاريّة وثقافيّة من ناحية ثانية، فحينها.. سندرك وجاهة دراسة اللّغة الإسبانيّة، وذلك بمنأى عن التّثاقف الذي قد تنتجه بتفاعلها مع الإرث الثّقافي للشّعوب الأخرى. ولعلّه من المفيد التّذكير هنا بأنّ الكاتب الإسبانيّ خوان جويتيسولو، المستعرب، الخبير بشؤون العالم العربي، كان قد أعرب عن امتعاضه ممّا يبديه بعض الإسبان من استخفاف باللّغة العربيّة، لذلك كتب يقول: «إنّي أعمل منذ سنوات عديدة من أجل التّعريف باللّغة العربيّة، لأنّني لا أحتمل ما آلت وتؤول إليه هذه اللّغة من نسيان وتغييب، ولأنّه يستحيل علينا في غيابها.. الحديث عن ثقافة إسبانيّة، إذ كانت اللّغة العربيّة أحد مكوّنات تلك الثّقافة».
تختصر هذه التّوطئة حينئذ الجدوى البالغة للّغة الإسبانيّة، وأهميّتها بالنّسبة للمغاربة المتعلّقين بتثمين تلك الأداة اللّغويّة، التي من المفترض أن تقودنا إلى التّصالح مع أنفسنا، ومع جزء من ماضينا، ماضٍ استغرقت فيه العلاقات الإسبانيّة المغاربيّة قرابة العشرة قرون، وهي فترة مديدة تخلّلتها دوماً تفاعلات اجتماعيّة وثقافيّة، سياسيّة واقتصاديّة، عميقة ومتواترة، وكانت تلك العلاقات كفيلة بإرساء أسس تثاقف موصول، تثاقف سوف يطال أيضاً أوساط المعمّرين الأندلسيّين أو الموريسكيّين بأميركا اللاّتينيّة، أولئك الذين كابدوا في أميركا مرارة النّفي وعذابات الاغتراب، ولكن لماذا نعتبر، ونحن الوافدون من آفاق عربيّة إسلاميّة، أنّ هذه اللّغة الإسبانيّة، تمثّل مقوّماً من المقوّمات الثّابتة للتّثاقف بيننا والإسبان؟
أوجه تماثل مشتركة
قد تكون الإجابة الأولى هي الإقرار بأنّ العرب هم الذين نشروا ثقافتهم في شبه الجزيرة الإيبيريّة، أي في إسبانيا والبرتغال، على امتداد أكثر من ثمانية قرون، وأنّهم خلّفوا تبعاً لذلك آثارهم بيّنة في كلّ المجالات الحياتيّة للإسبان.
وكان هؤلاء الإسبان قد سيطروا بدورهم خلال قرابة الثّلاثة قرون (1504-1792) على مواقع عسكريّة حصينة في بلاد المغرب، ومنها وهران، دون أن ننسى الحروب المزمنة في البحر والهجومات الإسبانيّة على الجزائر في العصر الحديث، وكانت كلّ تلك الأحداث مناسبات ملائمة لتنامي التّبادل التّجاري وللتّواصل العميق بين العرب والإسبان. ولذا، كان ولابدّ من أن تترك العلاقات بين هذه البلدان المنتمية إلى ضفّتي البحر المتوسّط، آثاراً عميقة وباقية في حياة شعوبها، لتشكّل عبر الزّمن أوجه تماثل مشتركة بينها.
وفضلاً عن ذلك التّفاعل، ستلعب شبه الجزيرة الإيبيريّة دور همزة الوصل لذلك التّفاعل الثّقافي، وتجعل الثّقافة الأندلسيّة تدرك شواطئ أميركا اللاّتينيّة، رغم عداوة الكنيسة ومحاكم التّفتيش فيها، والتي لم تنفكّ (في ذلك الوقت) عن ممارسة كلّ أشكال القهر والتسلّط للتّضييق على العادات والتّقاليد الإسبانيّة-الإسلاميّة التي لم تمّح مع الأيّام.
وقد أشارت الأستاذة المكسيكيّة، غلوريا فيلاسكاز في مقال يحمل عنوان «جذورنا العربيّة»، إلى ذلك التمدّد الثّقافي وما أفرزه من زخم حضاريّ عربي إسلامي: «لا تشذّ جاليسكو عن التّأثير العربي، وكم كنت أشعر بالسّعادة حين كانت تطالعني بيوت الموريسكيّين فيها فتذكّرني بأجواء غرناطة وقرطبة: مدارج بيضاء حلزونيةّ الشّكل، شرفات شرقيّة، بل موريسكيّة، مبهرجة، ومنذ سنوات، الحجاب الذي كان يغطّي وجوه النّسوة..»، ثمّ يستفزّني السّؤال: «ولكن ما الذي يتبقّى لنا من الأدب العربي في تلكم الدّيار؟».
إنّ هذا الانتشار الثّقافيّ بين مناطق متباعدة وقريبة في آنٍ.. لدليل على أهميّة القيم الثّقافيّة الثّابتة والباقية لحضارة عظيمة حمل لواءها مفكّرون وعلماء وأدباء وفلاسفة أفذاذ غادروا الأندلس لينشرو علموهم ومعارفهم بين أهالي تلمسان ثمّ بجاية ثمّ القيروان.
وينبئنا التّاريخ عن مدى ازدهار حركة انتقال الأفكار وعمق التّداخل الثّقافيّ والاجتماعيّ والسّياسيّ في مدينتين كانت لهما مكانة تاريخيّة رفيعة ومتميّزة: تلمسان وقرطبة، وقد لعبتا دوراً حيويّاً في التطوّر الفكري والعلمي في كلا البلدين. لقد حافظت مدينة تلمسان، عاصمة مملكة بني زيّان على علاقات وثيقة مع غرناطة زمن النّصريّين، لتتواصل تلك العلاقات مع الموريسكيّين والأندلسيّين المنفيّين في العصر الحديث. وسوف تسهم تلك العلاقات خلال القرون المتتالية، في انتقال الأفراد والمعارف إلى مدن عربيّة أخرى كانت مشعّة حضاريّاً على غرار مدينة تلمسان، مثل مدن فاس وبجاية وقسنطينة والقيروان، وغيرها.
التبادل الثقافي
بل قد نذهب إلى حدّ التّأكيد على أنّ مدن مثل غرناطة وفاس وتلمسان والقيروان..، باتت يومذاك محاور رئيسيّة للتّبادل الاجتماعي والثّقافي في العصر الوسيط، وساهمت تبعاً لذلك في تغذية ذلك التّثاقف المغاربي المشترك الذي نعيش آثاره في حياتنا اليوميّة اليوم.
أمّا الهجرة الأندلسيّة، فإنّها لم تتوقّف (بما كانت تحمله من مكتسبات علميّة وفكريّة بارزة) عن إثراء الحياة الثّقافيّة والفنيّة ببلاد المغرب. وكثير من الموسيقيّين والشّعراء والحرفيّين ذائعي الصّيت كانوا قد عاشوا يومذاك في تلمسان، التي لا تزال تحتفظ إلى يومنا هذا بسمات المدينة الإسلاميّة الأصيلة، التي لا زلنا نلمس رفعة مكانتها في عمارة المساجد، في الصّناعات الحرفيّة كما في النّواميس التي تحكم حياة النّاس. وذلك إرث ثقافيّ سوف تساهم في بقائه واستمراره مدن أخرى، قبل أن ينتقل ذلك الإرث إلى مدن الشّرق مثل الجزائر وبجاية وقسنطينة وتونس...
ولم تكن شبه الجزيرة الإيبيريّة وبلاد المغرب هي التي انتفعت وحدها بتلك الإضافات الثّقافيّة المتبادلة، لأنّ أميركا اللاّتينيّة التي تعتمد اللّغة الإسبانيّة، كانت قد ورثت هي الأخرى تأثيرات أندلسيّة عديدة، اجتماعيّة وثقافيّة، سرعان ما انتقلت مع غزاة أميركا بداية من 1492.
ويتجلّى التّأثير الأندلسي الأبرز في تلك العلاقات الثّقافيّة بين المشرق والمغرب، بين إسبانيا والغرب، في الفنّ الموسيقيّ الرّائع الذي ورثته أميركا اللاّتينيّة عن المهاجرين الأندلسيّين، والذي كان يعود أساساً إلى أصول شرقيّة، أندلسيّة ومغاربيّة.
إيقاعات أندلسيّة
ففي فنزويلا، يبرز التّأثير العربي الأندلسي في ما خلّفه الغزو الإسباني بتلك الرّبوع. وهذا ما نوّه به عالم الموسيقى رافائيل سلزار، الذي لاحظ أنّ الفلكلور الفنيزويلي تشكّل أساساً من حركات ميلوديّة وإيقاعات أندلسيّة. كما لاحظ حضور ذلك التأثير في الآلات الموسيقيّة وأشكال الرّقص التي شاعت بين النّاس، وفي البنى الشّعريّة-الموسيقيّة التي غالباً ما كانت مرتجلة.
وقد ذهب سلزار في تقصّيه إلى أبعد من ذلك، حين لاحظ أنّ بعض الأجناس الفولكلوريّة الموسيقيّة في فنزويلاّ مثل الفاندانغو، الجوروبو والنّشيد العميق، ينسلّ جميعها من أشكال عتيقة من الإبداع العربي يعرف بفنّ المقامات، وهو فنّ يعتمد في أدائه على الارتجال. كما لاحظ أنّ بعض الأناشيد الدّينيّة الفنزويليّة مشبعة بالنّوبة العربيّة الخاصّة بأداء الصّلاة في بعدها النّشكونيّ. وقد تنسحب مثل تلك الخصائص على موسيقى الباراغواي وشيلي والبيرو وغيرها من بلدان أميركا اللاّتينيّة الأخرى.
وقد تستوقفنا أيضاً مظاهر ثقافيّة أخرى من الحضارة العربيّة الإسلاميّة التي انتقلت من الأندلس إلى أميركا اللاّتينيّة خلال القرنين السّادس عشر والسّابع عشر، وإن كان من الصّعب إثبات أصولها العربيّة، مثل عادات الطّبخ واللّباس وفنّ السّرد وضرب الأمثال.
كما تبرز العلامات الفنيّة والمعماريّة واللّغويّة للعيان في هندسة البيوت التي غالباً ما تتألّف من باحات داخليّة، مجمّعات لمياه الأمطار وأروقة، تتوسّطها أشجار برتقال وليمون، والتي باتت تعرف لدى المتابعين بالبيوت الأندلسيّة. وقد قام الأستاذ خوان ياسر، الأرجنتينيّ ذو الأصول الفلسطينيّة، في كتابه «إرث عربيّ في أميركا»، بجرد قائمة من الكلمات التي احتفظت إلى غاية اليوم بأصولها العربيّة، والتي تؤشّر إلى التّأثير اللّغويّ العربي في الكلام المتداول بين النّاس في أميركا اللاّتينيّة. كما تبيّن أنّ تلك الكلمات لم تكن منسلّة من اللّغة الإسبانيّة، وأنّ أصولها تعود إلى اللّغة العربيّة التي كانت متداولة بين الموريسكيّين الأندلسيّين منذ أن وطأت أقدامهم الأرض الأميركيّة سنة 1492.
أمّا في مجال الأدب، فإنّ كلمة الأندلس لا تزال ترنّ بقوّة عبر ضفّتي المتوسّط وتثير بشكل بديع حالات من التأمّل والانتشاء إزاء الأبيات الشّعريّة المنقوشة على جدران قصر الحمراء. فهي الرّمز الباقي لأرض كانت تتفيّض نوراً، أرض حافلة بالموسيقى والشّعر، فيها بلغ الإبداع الفنّي مستوى فريداً لا يجارى من الرّفعة والأناقة والجمال، وبها شاعت أنوار علوم أصيلة بدّدت ظلامات قرطبة لتصبح هذه المدينة لقرون العاصمة الثّقافيّة لأوروبا.