نوف الموسى (دبي)
الالتزام الذي يبديه القائمون على مركز «تشكيل» بمدينة دبي، باتجاه دعم البيئات الإبداعية، وإثراء المجتمع الفني في دولة الإمارات، من خلال إدراك قيمة المساحات المشتركة للفنانين، وفتح أفق ممارسات التصنيع الفني لأفراد المجتمع كافة، يمثل إحدى أبرز الدعائم المعرفية لآلية توسيع مسارات البنى التحتية الثقافية، التي من شأنها أن تلعب دوراً جوهرياً في استدامة حركة الفعل الفني اجتماعياً وثقافياً وتجارياً، محققاً نقلات رئيسية فيما تهدف إليه الاستراتيجية الوطنية في قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية، من بناء شبكة فنية متكاملة، تتطور تجربتها بشكل عفوي وببعد منهجي ومنظم، قادر على قياس مخرجاته وتتبع نتائجه، ومن هنا جاء افتتاح معرض «صنع في تشكيل»، بمشاركة 136 فناناً مقيماً في دولة الإمارات، من بينهم أكثر من 25 فناناً إماراتياً، بالتوازي مع افتتاح مركز «تشكيل» لمساحة فنية جديدة، وهي «ورشة الصنّاع» أو ما يُعرف باسم «ميكر سبيس»، الواقع في المستودع رقم 89 في السركال أفنيو، وتأتي جميعها احتفاء بالمسيرة الثقافية لمركز «تشكيل»، وتحديداً فيما يتعلق بتقديم المساحات والخدمات الفنية على مدى 15 عاماً.
وتستوعب «ورشة الصنّاع» نحو 30 فناناً في الوقت الحالي، إلى أن يتم الانتهاء من مرحلة إعادة التجديد والتوسعة القائمة في المبنى القديم لمركز «تشكيل» في منطقة ند الشبا بدبي. وإلى جانب خدمات «تشكيل» في مجال الاستشارات الفنية، تُعلن أيضاً للمجتمع الإبداعي وللأعضاء المنتسبين إليها الذين يصل عددهم إلى 500 عضو، إمكانية كاملة للوصول إلى أجهزة تطوير وتنفيذ مشاريع التعليم الفنية لكل من قطاعات التعليم والثقافة، وبالأخص خدمات الطباعة والقطع، وتشمل القطع بالليزر، وطباعة الفنون الجميلة/التصوير الفوتوغرافي وطباعة «الريزوغراف»؛ وخدمات البيع بالتجزئة، وتتضمن فرص بيع المنتجات الفنية والتصميمات المصنوعة في الإمارات في متاجر أو عبر «الإنترنت»، إضافة إلى شبكة من الشركاء المتوزعين على مستوى الدولة. وبذلك يتصدر المركز الشكل الفني والتجاري للبيئات الإبداعية، ويعيد رسم خريطة الدور المجتمعي لحركة فعل التصنيع الإبداعي.
حالة إلهام
وبالنسبة لليسا بالتشغار، نائب مدير «تشكيل»، فالأمر كما أوضحته في حديثها لـ«الاتحاد» حالة من الإلهام المستمر نحو أفق مستقبل الفن المعاصر الإماراتي. وما يحاول «تشكيل» توفيره للمجتمع الفني، جاء نتاج بحث وأسئلة مستمرة لما يحتاج إليه الفنانون، وما يسعى إليه الأشخاص العاديون أصحاب المهارات الإبداعية، ليتوصلوا إلى أن المساحات المشتركة، أحد أهم الاحتياجات الرئيسة للقطاع الإبداعي، ليس فقط من الناحية الإنتاجية العملية، وإنما كذلك كحالة اجتماعية، قادرة على إثراء النقاشات وبيان أثرها في صياغة نماذج فنية مستدامة. وهناك -حسب ليسا بالتشغار- ومع إتاحة الخدمات ومصادر المعرفة والأدوات لإمكانية إنجاز التجارب الفنية اهتمام «تشكيل» أيضاً بفن ريادة الأعمال في القطاع الثقافي، من خلال تنظيم وإقامة ورش في مجال تسعير العمل الفني وتسويقه وتمويله، إلى جانب بناء علاقات مستمرة بين الفنانين وقطاع الصناعة والمصنعين الرئيسيين لدعم وتطوير أعمالهم، سواء لتقديم أعمال في الأماكن العامة، بالتعاون مع قطاع الإنشاءات والفنادق، إلى جانب البيع بالتجزئة.
البعد الفكري
والتعددية والتنوع في المواد والوسائط الفنية المستخدمة في أعمال الفنانين الشباب المشاركين في معرض «صنع في تشكيل»، أوحت بالبعد الفكري وطبيعة الأسئلة في تجاربهم الفنية، فمثلاً في العمل الفني «تأثير الفراشة» للفنان راشد المُلا، حضر عنصر «العين» في اللوحة كملحمة جمالية، أمام تحولات الإنسان الذاتية، وعنها يقول راشد المُلا: «أعمالي السابقة؛ كانت بمثابة بيان لمستوى إمكاناتي الفنية، بينما في هذه السلسلة الجديدة، أود مشاركة المجتمع الفني المستوى الفكري الذي أسرده بين سطور هذه الأعمال، ففيها الكثير من الأشياء التي تتحدث عني بوضوح شعوري وتكشف استثنائي عشته بعفوية مطلقة أثناء الرسم». وفي سياق التجريب العلمي الفني، قدمت الفنانة فرح الموافي، عملاً بعنوان «بنية أسرار نبات سالفيا هيسبانيكا»، واشتغالها يركز على مفهوم «العمى النباتي»: ميل الإنسان إلى إهمال النباتات أو إدراكها فقط بصفتها موارد أو جماليات، واللافت في بحث الفنانة فرح، من خلال زراعة بذور الشيا على لوحات قماشية، مصحوبة بأوصاف علمية تشمل التصنيف والبيولوجيا والهيئة الخاصة بها، أنه يشير إلى بيان أهمية أن النباتات كائنات مبدعة، وتمتلك أسرارها التي لا يمكن اكتشافها بشكل تحليلي علمي بحت، بل بالسعي إلى خلق لغة خاصة للتفاهم والتفاعل معها.
معنى التفاصيل
وعلى رغم الاهتمام الإعلامي بلوحة «حنين إلى علياء» للفنان حمد الشامسي، كونه يعرض لوحة تقدر بنحو 120 ألف درهم -من بين أغلى اللوحات المعروضة- إلا أن القيمة الاجتماعية للوحة وعلاقتها بالفنان، تحمل بعداً أكثر حاجة للقراءة والنقد الفني، فقد تحدث الفنان حمد عن البعد التقني ومعنى التفاصيل الدقيقة في اللوحة الفنية، وهنا ربط التفاصيل بالطقوس المجتمعية، كونها تشكل الذاكرة الجمعية، من بينها حضور زهرة الجهنمية في البيوت القديمة، وأوضح حمد الشامسي، أنه لرسم تلك التفاصيل يحتاج الفنان إلى انضباط ووقت وتركيز كبير، وقد تعلم من خلالها معنى الصبر والالتزام، وجميعها قيم تلهمنا عن معنى الطقوس المجتمعية في حياتنا وحاجتنا لها كممارسة في التواصل المستمر والمنضبط مع ذواتنا وذاكرتنا ومجتمعنا. وفي المقابل، سرد الفنان عصام الحاج إبراهيم، علاقتنا المستمرة مع الأرض وتكاملنا مع الطبيعة من خلال العمل الفني «درنات»، وفي حميمية أخاذة، وصف الفنان عصام، كيف أن الدرنة تنمو على سطح البطاطا، بعد أن تقطف وتنقطع الثمرة عن الأرض والماء، ولكنها تتحول إلى شجرة، مشبهاً ذلك بالإنسان وارتباطه بالأرض من خلال الدفاع عن وجوده فيها.