بدأت ملامح المخاض الأولى بالانبعاث من رحم كبريات الاقتصادات العالمية، مؤذنةً بولادة عقدة اقتصادية لم يسبق لها مثيل منذ عقود، قبيل استقبال عام 2020، متبوعةً بجائحة كورونا التي تحرم العالم إلى الآن من تنفس الصعداء، تاركةً بالغ الأثر على الجسد الاقتصادي العالمي بمنظوماته المختلفة أكثر من غيرها، من العوامل التي كانت مرشحة للتأثير والتأثر، ومُنبِتةً في ذات الوقت براعم لاقتصادات صاعدة.
إن الإرهاصات التي لوحت بوجود أزمة اقتصادية عميقة، وبخاصة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، لم تكن إلا المرحلة الأولى أو التحضيرية لعالم جديد «اقتصادياً»، يطل علينا بعد خوض العالم حربَه ضد فيروس كورونا، إذ شهد معدل النمو الاقتصادي العالمي تراجعاً بعد تراجع، ليكون آخره بمعدل 3% عام 2019، وبنسبة 1% خلال النصف الأول من العام نفسه كمعدل نمو في التجارة الدولية، والذي يعتبر الأكثر خمولاً منذ عام 2012، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي في تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي في نهاية عام 2019.
ومن ناحية أخرى، فقد وضعت أغلب دول العالم قسراً تحت سندان الأمر الواقع بالاعتماد على نفسها، بعد تجربة مشبعة بـ«فشل عولمي»، وتعطل في حركة الطيران والنقل، وانهيار في سلاسل الاستيراد والتصدير، التي كانت بالأمس تمثل مفصلاً قوياً يربط بين الدول، ويلعب دوره المؤثر في شد وإرخاء وتر علاقاتها.
إن تلك المعطيات مجتمعةً ترجح فرصة تصاعد نظام عالمي جديد، يصلِح الضررَ ويتجاوز الأخطاء بقصد أو بدونه، ويعيد للمستثمرين معنوياتهم المحبطة، ويلوح بتطورات تقنية على كافة القطاعات، حال التخلص من وباء كورونا.
ونتيجة لكل ذلك، لا بد من توجه الحكومات نحو رسم خطط مبكرة لاجتياز التحديات الاقتصادية كافة، وللاستفادة من تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة في تطوير الحكومة الإلكترونية، إذا ما أرادت هذه الحكومات استدراك انهيار عدة منظومات، كالمنظومة الاجتماعية المعرضة للتأزم جراء ما أصاب ويصيب المنظومة الاقتصادية، واضعةً تحت الضغط قدرة الأفراد على توفير احتياجاتهم، يصاحبه تنامي في معدلات الفقر والبطالة، مما يعني اهتزاز البنى التحتية والخدماتية في المجتمع.
إن إيجاد طريق استراتيجي منظم لتفادي تفاقم الأزمات، سيكون سبيلاً لتجنيب الاقتصادات ودولها أن تُلدغ من ذات الجيب مرتين، ولكي لا نستبدل «كورونا فيروسية» بـ«كورونا اقتصادية» خانقة للمؤسسات والمجتمعات والحكومات، وبما يضمن منح ثقة أكثر متانة للإنتاج المحلي، والعمل على دفع إمكاناته وتغذيتها، وتعزيز قدرة المؤسسات القومية، وفك ارتباط مصير الدول الوطنية مع إملاءات وخطط المؤسسات الدولية كالبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية.. والكثير من الوقائع تؤكد على ضرورة ذلك، ولعل أحدثها إيقاف الولايات المتحدة الأميركية، دعمها عن منظمة الصحة العالمية في وقت لا يعد مناسباً مهما كانت الأسباب.
لقد تحول «المدى البعيد» إلى مدى واسع باصلاحاته، قريب بأهمية إنجازه بالسرعة القصوى تفادياً لانهيار اقتصادي عالمي، من خلال تعاضد عريض من الاستجابات السياسية والإصلاحات المؤسساتية، وتفعيل القرارات اللازمة والداعمة للجهات المتضررة، لإعادة ضبط كفتي الميزان الاقتصادي الذي يترتب عليه الكثير، وبذلك تكون الدول في كافة أحوالها (في الشدة والرخاء) على أهبة الاستعداد لاستقلالية تامة واكتفاء ذاتي كفء، وذلك ما يمكن اعتباره ضرورة في الوقت الذي بعثرت فيه الظروف موازين القوى الاقتصادية العالمية، وخسفت باقتصادات لم تعان على هذا النحو من قبل.
لقد حان الوقت لتأكيد الثقة في مقدرات الدول الوطنية، مستلهمةً إرادة حكامها وثقة أبنائها وكفاءتهم، على المشاركة في تأسيس نظام عالمي جديد، يتجه خاصة نحو تطوير تقنيات مواجهة الأوبئة وسلامة البيئة، مبني على الاحترام والعدل والتكافل الإنساني.. وهو ما يتنبأ به المفكّر الفرنسي «جاك أتالي»، الذي كان مستشاراً للرئيس الفرنسي السابق «فرنسوا ميتران»، في قوله: «مع المراجعات العميقة لمفهوم السلطة، سنشهد ولادة سلطة جديدة، سلطة لن تقوم على الإيمان أو القوّة أو العقل أو المال، بل على أولئك الذين أظهروا تعاطفاً مع الآخرين، وستؤول الهيمنة إلى القطاعات الاقتصادية التي أظهرت تعاطفها مع الناس، كقطاعات الصّحّة والمشافي والتغذية والتعليم والبيئة».

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة