كيف وصل الوضع اللبناني حد توقيع خمسين ألف شخص رسالة تطالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته لبيروت بعد تفجيرات مرفئها، بإعادة الانتداب إلى لبنان في ذكرى مئوية إنشاء الكيان اللبناني؟
البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي لم يفتأ خلال الأسابيع الأخيرة يدعو إلى عودة لبنان إلى سياسة الحياد الإيجابي في الملفات الإقليمية، ذهب إلى المطالبة بتشكيل لجنة دولية لتسيير المساعدات المالية التي قدمتها عدد من الدول والمؤسسات الدولية للبنان بعد الحدث المأساوي الأخير الذي دمر نصف المدينة التي كانت في سبعينيات القرن الماضي يطلق عليها «جنيف الشرق».
ومن الجلي أن حركة التمرد الشعبي الواسع التي انطلقت في أكتوبر الماضي قبل أن تهدأ في ظل الأزمة الصحية العالمية، قد تجددت بقوة في الشارع اللبناني معبّرةً عن حالة القطيعة الكلية بين الحشود المنتفضة والنخب الحاكمة التي أظهرت عجزَها الفادح عن إخراج البلاد من محنتها الاقتصادية والاجتماعية، بل بددت بالكامل رصيد البناء والإصلاح في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية.
تحدث الكثيرون عن نهاية «التجربة اللبنانية»، واستخدم البعض عبارة «الدولة الفاشلة» للحديث عن الوضع اللبناني الحالي. وإذا كانت جذور الأزمة السياسية اللبنانية غير جديدة، بل ترجع إلى لحظة تأسيس الكيان اللبناني نفسه سنة 1920 وإلى ترتيبات «الميثاق الوطني» غير المكتوب الذي كرس عند استقلال البلاد سنة 1943 النظام الطائفي الحالي، فإن المأزق الراهن غير المسبوق يجسد انحسار آليات التسوية التوافقية التي مكنت طيلة العقود الثمانية الماضية من استمرار النظام السياسي اللبناني.
صحيح أن البلاد عرفت منذ استقلالها حربين أهليتين داميتين، إلا أن نظام التوازنات الطائفية الهشة حافظ على فاعليته ومرونته في ارتباطه العضوي بترتيبات الأوضاع الإقليمية، بما سمح في سنة 1989 بالخروج من الحرب الأهلية الطويلة وفق «اتفاق الطائف» الذي كرس نظام الرئاسات الثلاث الحاكمة جماعياً.
وكما هو معروف، ترجع أصول هذا النسق الطائفي إلى نظام الملل العثماني في جبل لبنان وتجربة المتصرفية اللبنانية المستقلة التي وسّعها الانتداب الفرنسي في شكل دولة انضمت إليها المدن الساحلية الشامية، انتهاءً بالتسويات التي تمت بين النخب المارونية والسنية غداة الاستقلال (التوفيق بين مطلب «سوريا الكبرى» ومطلب الحماية الغربية).
وعلى الرغم من هشاشة هذه التسويات، فإنها أفضت إلى صورة لبنان البراقة في الخمسينيات والستينيات: تجربة الحرية الواسعة، والنظام المصرفي الناجع، والصناعة السياحية الجذابة. ولم تكن هذه المكاسب لتتم لولا سياسة الحياد الإيجابي في الصراعات الإقليمية خلال مرحلة اشتداد الحرب الباردة العربية بين المحورين المحافظ والثوري. 
وإذا كانت الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 هي في جانب منها صراع طائفي وسياسي داخلي، فإنها عكست في الآن نفسه الصراع الإقليمي الجديد الذي أدت إليه معادلة الحركة الفلسطينية المسلحة بعد حرب 1967 وصعود الأنظمة العسكرية القومية في كل من سوريا والعراق وليبيا، قبل أن تدخل إيران في قلب المعادلة بداية من عام 1979.
وإذا كانت صفقة الخروج من الحرب الأهلية عكست الديناميكيتين نفسيهما (التوازنات الطائفية الجديدة التي فرضت إعادة تعديل توزيع السلطة والتمثيل، ومعادلة القوة الناتجة عن حرب تحرير الكويت عام 1991 والتي وطدت الدور السوري في الساحة اللبنانية)، فإنها عانت من ثغرتين خطيرتين هما: الفشل في تفكيك ميليشيا «حزب الله» على غرار بقية المليشيات الأخرى، بما سمح لها بالتحول تدريجياً إلى القوة المهيمنة على القرار السياسي، والتخلي عن سياسة الحياد في الملفات الإقليمية العربية، خصوصاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005. ورغم خروج القوات السورية من لبنان، لم يستعد النظام السياسي اللبناني حريةَ القرار الداخلي، وتحول لبنان تدريجياً إلى حديقة خلفية للانهيار الإقليمي بعد موجة «الربيع العربي».
لقد انعكس هذا المأزق المزدوج بالسلب على صورة لبنان، حيث انحسرت الحريات العامة وانهار النظام المالي، وتفاقمت عزلة البلد الذي كان ينظر إليه حتى عهد قريب وكأنه الاستثناء العربي.
وهكذا كانت انتفاضة أكتوبر 2019 إعلاناً مدوياً على فشل النظام السياسي الطائفي الذي لم يعد قادراً على تعبئة القاعدة الأهلية، بما يعني الانفصام المتزايد بين اعتبارات الهوية الطائفية ومطالب الاندماج الاجتماعي. وكما بين عالم الاجتماع اللبناني المعروف «وضاح شرارة»، يشهد لبنان منذ سنوات تحولاً نوعياً من الحالة الطائفية الأصلية (ما قبل السياسية) إلى حالة طائفية متولدة عن الصراع على موارد الدولة ومواقعها القيادية، وعندما تتقلص قدرات الدولة على إشباع رهانات الاستقطاب الطائفي الجديد، تنهار البنية الطائفية بكاملها.
إن هذا المشهد هو ما يعيشه لبنان حالياً، فلم تعد الزعامات الطائفية قادرة على ضبط الحركة الاجتماعية، وظهر أن ائتلاف القوى الحاكمة في انفصام حقيقي مع الشارع المحبط المحتج، وذلك ما بينه بوضوح رد الفعل المتولد عن انفجارات مرفأ بيروت.