عام 2019، ولأسباب عائلية خاصة وطارئة تعذر عليّ تلبية دعوة كريمة من دولة الإمارات العربية المتحدة لحضور فعاليات «لقاء الأخوة الإنسانية» كما تمت تسميته رسمياً في الإمارات؛ وبالنسبة لي ككاتب وصحافي، فالحدث الحقيقي كان حينها في زيارة بابا الفاتيكان ورأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس للجزيرة العربية وإقامته قداساً على أرضها. 
قداس لا أعتبره الأول في التاريخ، فالجزيرة العربية كانت موطناً أصيلاً للمسيحيين العرب واحتوت جغرافيتها كنائس متعددة. وكانت كنيسة نجران في الجزيرة العربية بمثابة كاتدرائية لكل المنطقة الشاسعة، ومن نجران كان أحد من طوبتهم المسيحية قديساً من قديسيها وهو الحارث بن كعب النجراني، وقد اعتبر مع الأربعة آلاف مسيحي الذين قتلوا يومها شهداء الكنيسة، وهم أنفسهم من ورد ذكرهم في القرآن في قصة أصحاب الأخدود.
بكل الأحوال..كانت الدعوة للحضور والتي فاتتني للأسف، مهمة كقيمة معرفية مضافة لما تعلمته قبلها بعام في تونس، وقد كنت مشاركاً أيضاً في مؤتمر نظمه معهد الولايات المتحدة للسلام، بالتعاون مع شبكة بث الشرق الأوسط في واشنطن والتي أشرف بالعمل لديها.
المؤتمر الذي انعقد في تونس كان اسمه «مؤتمر الكرامة الإنسانية»، وذهبت للمؤتمر يومها وأنا محتار فيما يمكن الحديث عنه في مفهوم الكرامة الإنسانية، فالمفهوم فضفاض وواسع، لكن الحيرة تبددت في اليوم الأول، حين تحدث مختصون وخبراء في القانون والعلاقات الدولية والإنسانية وبحضور نخب متعددة المنابت والخلفيات، لنجد أن فكرة الإنسان بأصلها الأول هي البوصلة لتحديد كافة المفاهيم من جديد.
المحاولات في توحيد الإنسانية ضمن أطر واضحة وواقعية ليست جديدة، ففي العصر الحديث، وفي عام 1795 كان المفكر الألماني «إيمانويل كانط» قد طرح كتابه «السلام الدائم: صورة فلسفية»، ولخص فيه فكرة واقعية ومثالية بنفس الوقت بإقامة عالم يسوده السلام، ليس بمعنى أن يكون هناك حكومة عالمية، ولكنه كان يأمل في أن تتعامل كل دولة بوصفها دولة حرة تحترم مواطنيها، وترحب بالزوار الأجانب. لذا فإن اتحاد الدول الحرة من شأنه أن يعزز المجتمع السلمي في جميع أنحاء العالم، وبالتالي يمكن أن يكون هناك التزام بسلام دائم في المجتمع الدولي.
ملاحظة على هامش السياق: من أزمات العالم العربي مثلاً، دراسة الفلسفة مرفوضة بقرارات دينية متعصبة، مما يجعل كانط وسلالته العقلانية منقرضة بالضرورة في الواقع العربي الراهن.
هذه الفكرة التي طرحها الفيلسوف الألماني وانتظرت تبلورها الطبيعي حتى عام 1919 بعد حرب كونية مدمرة. وفي مؤتمر باريس للسلام طرح الرئيس الأميركي وودرو ويلسون مبادئه الأربعة عشر، والتي شكلت حجر الأساس لتأسيس عصبة للأمم تستلهم كثيراً ما أورده كانت في كتابه، والذي اعتمد الكرامة الإنسانية والتسامح.
طبعاً، كانت فلسفة الدبلوماسية بخلفيات الصراع السياسي العالمي واليمين المتطرف والمصالح الإقصائية والاستعمارية لا تزال تسكن العالم، فسقطت فكرة عصبة الأمم التي خلفتها هيئة الأمم والتي كانت محصلة طبيعية لتداعيات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
اليوم، علينا أن نؤمن بيقين أن العالم بحاجة إلى أفكار جديدة، فكرة إنسانية توحده ضمن معطيات مختلفة عما سبق كله، معطيات ثورة تكنولوجيا المعلومات التي حولت العالم إلى قرية واحدة، وهو العالم نفسه الذي صرخ ميخائيل جورباتشوف ذات مرة بقولته المنسوبة إليه حين قال: عالم واحد أو لا عالم على الإطلاق.
ربما من الإمارات يمكن أن ننسج بدايات فكرة جديدة لمفهوم أممي إنساني مختلف عن كل ما سبق وفكرت به البشرية في عصرها الحديث.
كان 2019، عام التسامح الإماراتي لكنه قد يصبح بعد مئة عام من الآن، حجر أساس نؤرخ فيه لعالم جديد حينها، عالم واحد بدلاً من لا عالم على الإطلاق.