طوال شهرين لجأ السياسيون اللبنانيون الذين اتهمهم القاضي العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت إلى المخارج القانونية التي يستخدمها المتهمون في العادة للدفاع عن أنفسهم. ومن تلك المخارج أن القاضي العدلي خالف الدستور عندما اتهم وزراء سابقين للأشغال والمالية والداخلية بجرائم شخصية كالمرتكبين العاديين، بينما هم كانوا يتولون مناصب سياسية، والدستور ينصُّ على أنّ السياسيين ذوي المناصب يحاكمون أمام محكمةٍ خاصةٍ حدد الدستورُ أعضاءَها لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وتجاهلها القاضي.

والمفارقة أنه أقرّ بالمحكمة الخاصة للقضاة بحسب الدستور، وحوّل قاضيين إليها ما بدأت محاكمتهم بعد. والحجة الثانية للمتهمين أنّ القاضي اتهمهم مباشرةً دونما سؤال أو استدعاء باعتبارهم شهوداً قبل التحقيق الأولي الضروري لتحويل الشاهد إلى متهم!

وعلى أي حال، وفي كل الدفوع التي قدمها المتهمون ابتداءً، وسواء لجهة رد القضية لأنها لا تدخل في صلاحيات القاضي العدلي، أو لجهة «الاشتباه المشروع» والمطالبة بتغيير القاضي، كما حصل مع القاضي «صوان» سَلَف القاضي «البيطار»، فإنّ الجهات القضائية المختصة كانت تتجاهل الدفوع وتُعطي الحقّ للقاضي العدلي، وتطلق يده من جديد، فيعمد للاستدعاء والإحضار أو حتى لإصدار الأمر بالقبض على هذا الوزير السابق أو ذاك، وكذلك على رئيس الحكومة السابق حسّان دياب!  

  والواقع أنه في الأسابيع الماضية، ما عادت التجاذبات تجري بين المتهمين والجهاز القضائي، بل تجري كلها في وسائل الإعلام التي جعلت من القاضي البيطار بطلاً، وأدانت المتهمين سلفاً بارتكاب جريمة تفجير المرفأ، وإلا فلماذا لا يستجيبون للقاضي مهما كانت النتيجة؟! وإلى وسائل الإعلام المسيحية في غالبها، وقفت ضد المتهمين أيضاً كل الأحزاب المسيحية، والمعروفين بالمدنيين الذين كانوا بين ثوار عام 2019.  

  وعندما نقول إنّ المسيحيين عموماً والرأي العام أدانوا المتهمين سلفاً، فإنّ «حزب الله» و«حركة أمل» وقفوا منذ البداية ضد القاضي «صوان»، وفي الشهر الأخير ضد القاضي «البيطار».

مسؤول الارتباط في الحزب ذهب إلى العدلية وهدَّد القاضي، والأمين العام للحزب قال مراراً إنّ القاضي يمارس التسييس ويقاضي السياسيين أمام الرأي العام، وأمام أهالي الضحايا الذين يزورونه يومياً ويتظاهرون تأييداً له. وفي الخطاب الأخير للأمين العام للحزب طالب بإزاحة القاضي أو تحدث فتنة لا تُحمد عقباها!

ووافقه على ذلك المفتي الشيعي أحمد قبلان. المشكلة الآن مزدوجة، فرئيس الجمهورية هو حليف الحزب منذ عام 2006 عندما كان ما يزال نائباً معارضاً، والحزب هو الذي فرضه عام 2016 رئيساً. ولذا فبقدر خوف ميقاتي على حكومته بانسحابات الوزراء الشيعة وحلفائهم منها، يقع رئيس الجمهورية في مأزق التحالف مع الحزب من جهة، والخوف من الرأي العام المسيحي من جهةٍ ثانية والذي سيطالب بإقالته إن نقل القاضي بيطار، وهو سيفعل بالتأكيد، إنما كيف يجري التفكير بعد الأحداث الدامية بين المسيحيين والشيعة يوم 14/10/2021.  

  كان أمل اللبنانيين ضعيفاً في أن تستطيع الحكومة وقف الانهيار الشامل والذهاب لصندوق النقد الدولي لطلب المساعدة، بسبب طبيعة تشكيلتها ولأنّ رئيس الجمهورية والحزب يختلفان مع رئيسها في المقاربة للمشكلات. والآن وفي الوقت الذي صار سعر الدولار 21 ألف ليرة في السوق السوداء، ولا بنزين ولا مازوت ولا غاز في السوق، تهدد الأزمة الحالية الحكومةَ بالانفراط للعجز عن التصرف وسط سطوة الحزب على الدولة ومؤسساتها قبل القاضي بيطار وبعده!  

  ما عاد من الممكن القول إنّ المنظومة الحاكمة هي المأزومة، بل إنّ الأزمة صارت أزمة نظام. فبعد ثلاثة عشر شهراً عطّل خلالها رئيس الجمهورية إقامة حكومة لإدارة البلاد، عادت الأزمة لتقبع في حضن الرئيس، وفي حضن رئيس الحكومة الجديدة على حدٍ سواء. فبقدر انكشاف القضاء للاستنسابية فيمن يتهم ومن لا يتهم، انكشفت سيطرة الحزب على الدولة، وبخاصةٍ أنه هو وحلفاؤه يتولون السيطرة على سائر المؤسسات الدستورية: الرئاسة والحكومة ومجلس النواب. وإذا انفجر النظام الآن، فكيف يمكن الحديث عن إجراء انتخاباتٍ في الربيع؟ *أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية