أفاد تقرير علمي جديد صدر في نهاية فبراير من العام الجاري بأن مخاطر تغير المناخ تتصاعد بسرعة كبيرة قد تعجز قريباً أمامها قدرة كل من الطبيعة والبشرية على التكيف، ما لم يتم تقليص انبعاثات غازات الاحتباس الحراري سريعاً. ويعد تقرير «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ»، التابعة للأمم المتحدة، الأكثر تفصيلا حتى الآن عن التهديدات التي يشكلها الاحتباس الحراري.

ويخلص إلى أن الدول لا تبذل ما يكفي تقريباً من الجهود لحماية المدن والمزارع والسواحل من الأخطار الناتجة عن تغير المناخ حتى الآن، مثل موجات الجفاف القياسية، وارتفاع منسوب البحار، ناهيك عن الكوارث الأكبر التي يحملها المستقبل مع استمرار ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض. وذكر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أن التقرير الذي كتبه 270 باحثًا من 67 دولة، هو «أطلس للمعاناة الإنسانية وصحيفة اتهام شديدة لفشل القيادة في المناخ. وبحقيقة بعد أخرى، يكشف هذا التقرير وطأة تغير المناخ على الناس والكوكب». وذكر التقرير أن المخاطر جلية بالفعل في جميع أنحاء العالم.

13 مليون نازح

ففي عام 2019، أدت العواصف والفيضانات وظواهر مناخية متطرفة أخرى إلى نزوح أكثر من 13 مليون شخص في آسيا وأفريقيا. وارتفاع درجات الحرارة والجفاف يقتل المحاصيل والأشجار، ويعرض ملايين الأشخاص حول العالم لخطر الجوع وسوء التغذية، كما ينتشر البعوض الحامل لأمراض مثل الملاريا وحمى الضنك في مناطق جديدة. ويواجه نحو نصف سكان العالم حالياً ندرة حادة في المياه، لفترة من العام على الأقل. ولا ينجو من الضرر إلا قلة من الدول. فقد تسببت موجات الحر الشديد التي فاقمها الاحتباس الحراري في مقتل مئات الأشخاص في الولايات المتحدة وكندا، والفيضانات الضارية دمرت ألمانيا والصين، وحرائق الغابات خرجت عن السيطرة في أستراليا وسيبيريا. وذكرت كاميل بارميزان، الباحثة المتخصصة في شؤون البيئة في جامعة تكساس، وهي من المشاركين في إعداد التقرير أن «أكثر الاستنتاجات بروزاً في تقريرنا هو أننا نشهد آثاراً عكسية أكثر انتشاراً وسلبية بكثير مما كان متوقعاً». وحتى الآن، تمكن عدد من الدول من الحد جزئياً من الأضرار بإنفاق مليارات الدولارات كل عام على تدابير التكيف مثل إقامة حواجز الفيضانات، أو تكييف الهواء، أو إقامة أنظمة إنذار مبكر من الأعاصير المدارية. لكن التقرير ذكر أن هذه الجهود غالباً ما تكون «جزئية».

والاستعداد لمخاطر المستقبل، مثل تراجع ​​إمدادات المياه العذبة أو الضرر الذي لا يمكن إصلاحه في النظام البيئي، يحتاج إلى تغيرات «تحدث تحولاً»، وتتضمن إعادة التفكير في كيفية بناء الناس للمنازل، وإنتاج الغذاء والطاقة وحماية الطبيعة. وينقل التقرير أيضا تحذيراً شديداً بقوله إنه إذا تواصل ارتفاع درجات الحرارة، قد تواجه أجزاء كثيرة من العالم قريبا قيوداً في مدى قدرتها على التكيف مع بيئة متغيرة. وإذا لم تتحرك الدول بسرعة لخفض كبير في انبعاثات الوقود الأحفوري ووقف ظاهرة الاحتباس الحراري، سيعاني عدد متزايد من الناس من خسائر لا يمكن تجنبها، أو يضطرون للخروج من ديارهم، مما يؤدي إلى حدوث نزوح عالمي النطاق.

تأثيرات كارثية

ويرى «هانز-أوتو بورتنر»، عالِم الأحياء البحرية في ألمانيا الذي ساعد في تنسيق التقرير أننا كنا نعتقد أنه إذا لم نستطع التحكم في تغير المناخ، فسنتركه يحدث ونتكيف معه فحسب. واستطرد بورتنر قائلا «هذا تصور خيالي للغاية بالتأكيد» مع الأخذ في الاعتبار المخاطر المتوقعة مع استمرار ارتفاع درجة حرارة الكوكب. وزادت حرارة الكوكب بالفعل 1.1 درجة مئوية، أو درجتين فهرنهايت، منذ القرن التاسع عشر، مع ضخ البشر غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي بحرق الفحم والنفط والغاز للحصول على الطاقة، ومع قطع الغابات

. وتعهد عدد من القادة، من بينهم الرئيس الأميركي، جو بايدن، بتقييد ارتفاع حرارة الكوكب إجمالاً، بما لا يزيد على 1.5 درجة مئوية عن مستوى ما قبل عصر الصناعة. وذكر علماء أنه فيما يتجاوز هذا الحد، تتزايد كثيرا احتمالات حدوث تأثيرات مناخية كارثية. وبلوغ هذا الهدف يتطلب من الدول التخلص تماما تقريبا من انبعاثات الوقود الأحفوري بحلول عام 2050، لكن معظم الدول بعيدة عن هذا. وقدر خبراء أن العالم يسير حالياً نحو ارتفاع الحرارة ما بين درجتين وثلاث درجات مئوية هذا القرن. وصرح جوتيريش قائلا «تلوث الكربون دون قيد يجبر الفئات الأكثر عرضة للخطر في العالم على القفز نحو الدمار الآن. هذا التخلي عن القيادة إجرامي». ويحذر التقرير من أنه حتى أفضل الجهود البشرية للتكيف قد لا تفلح، إذا زاد متوسط ارتفاع الحرارة عن 1.5 درجة مئوية. وتكلفة الدفاع عن المجتمعات الساحلية ضد ارتفاع منسوب البحار قد لا تقدر كثير من الدول على تحملها. وذكرت ريتشل بيزنر كير، خبيرة الزراعة في جامعة كورنيل التي ساهمت في التقرير، أن العاملين في مجال تربية الماشية وغيرهم ممن يعملون في الهواء الطلق قد يواجهون مستويات متزايدة من ضغوط الحرارة تتزايد معها صعوبة القيام بالنشاط الزراعي، في مناطق مختلفة يقع بعضها في أميركا الشمالية.

معضلة الدول الفقيرة

وذكر «مارتن فان آلست»، مدير مركز المناخ التابع للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وهو أحد المشاركين في كتابة التقرير، أنه إذا ارتفعت الحرارة «فيما يتجاوز 1.5 درجة مئوية، لن نستطيع السيطرة في جبهات كثيرة. وإذا لم نتبع الآن تعديلات تتعلق بكيفية تعاملنا مع البنية التحتية المادية، وأيضا في كيفية تنظيم مجتمعاتنا، ستصبح الأمور سيئة». والدول الفقيرة أكثر عرضة لمخاطر المناخ عن الدول الغنية. وبين عامي 2010 و2020، بلغ عدد الأشخاص الذين قتلتهم موجات الجفاف والفيضانات والعواصف في البلدان المعرضة بشدة لهذه الأخطار، بما في ذلك تلك الموجودة في أفريقيا وآسيا، 15 ضغف ما قتلتهم في البلدان الأكثر ثراء. وأثار هذا التفاوت جدلاً محتدماً عما تدين به الدول الصناعية الأكثر تسببا في انبعاثات الاحتباس الحراري للدول النامية. وتريد الدول منخفضة الدخل مساعدة مالية، للتصدي لأخطار المستقبل وللتعويض عن الأضرار التي لا تستطيع تفاديها. والقضية ستكون محور اجتماع الحكومات في قمة المناخ المقبلة للأمم المتحدة في مصر في نوفمبر.

وتؤكد آني داسجوبتا، «رئيس معهد الموارد العالمية»، المؤسسة المعنية بالدفاع عن البيئة، أن «تغير المناخ ظلم تام. فالأشخاص الذين لديهم أقل الموارد، والأقل مسؤولية عن أزمة المناخ، يتحملون العبء الأكبر من تأثيرات المناخ». ومضت تقول «إذا كان المرء لا يعيش في منطقة حيوية، فلك أن تتخيل سقفاً متداعياً، وبئر قرية غمرتها المياه المالحة، وفساد محصول، وضياع وظيفة، وفقدان وجبة، كل هذا يتبع بعضه بعضاً».

مخاطر تتسارع

ويوضح التقرير الذي وافقت عليه 195 حكومة أن المخاطر على البشر والطبيعة تتسارع مع كل زيادة إضافية في ارتفاع درجة الحرارة. وفي المستويات الحالية من ارتفاع الحرارة، على سبيل المثال، تشهد البشرية ضغوطاً بالفعل في قدرتها على توفير الغذاء. وذكر التقرير إنه بينما العالم مازال ينتج كمية أكبر من الغذاء كل عام، بفضل التحسينات في الزراعة وتكنولوجيا المحاصيل، لكن تغير المناخ بدأ يُبطئ معدل النمو، وهذا توجه مشؤوم يعرض إمدادات المستقبل الغذائية للخطر مع تجاوز عدد سكان العالم ثمانية مليارات نسمة. وكتب مؤلفو التقرير يقولون إنه إذا بلغ ارتفاع الحرارة 1.5 درجة مئوية - كما هو مرجح الآن في غضون العقود القليلة القادمة – قد يصبح نحو 8% من الأراضي الزراعية في العالم غير مناسبة لزراعة الغذاء. والشعاب المرجانية التي تحمي السواحل ضد العواصف وتعمل على استدامة توافر الأسماك لملايين الأشخاص، هذه الشعاب ستتعرض لفقدان ألوانها وموتها بإيقاع أسرع نتيجة موجات ارتفاع حرارة المحيطات، ولتقلص يتراوج بين 70% و90%. وقد يتزايد عدد الأشخاص المعرضين للفيضانات الساحلية الشديدة في جميع أنحاء العالم بأكثر من الخمس ما لم تتوافر حماية جديدة.

ومع ارتفاع الحرارة درجتين مئويتين، قد يواجه ما بين 800 مليون وثلاثة مليارات شخص على مستوى العالم، من بينهم أكثر من ثلث سكان جنوب أوروبا، ندرة مزمنة في المياه بسبب الجفاف. وقد تبدأ حصائل الأرض الزراعية وأسماك البحار في التقلص في مناطق كثيرة. وقد يواجه 1.4 مليون طفل إضافي في أفريقيا سوء تغذية حاد، مما يعرقل نموهم. وإذا ارتفعت درجات الحرارة ثلاث درجات، قد يتزايد احتمال وقوع الأحداث المناخية المتطرفة خمسة أمثال بحلول نهاية القرن. وقد تتسبب الفيضانات الناجمة عن ارتفاع مستوى سطح البحر والعواصف المطيرة الشديدة أربعة أمثال ما تحدثه اليوم من أضرار اقتصادية في جميع أنحاء العالم. وقد يواجه ما يصل إلى 29% من الأنواع النباتية والحيوانية المعروفة على الأرض احتمالاً كبيراً بالانقراض.

صعوبة التكيف

ويحدد تقرير الهيئة الاستراتيجيات التي تستطيع الدول إتباعها لحماية نفسها، مثل إقامة المنازل في مستوى فوق مياه الفيضانات أو تطوير أنواع محاصيل جديدة أكثر تحملاً للحرارة والجفاف. ونجحت البشرية بالفعل في الحد من بعض الأضرار الناجمة عن مخاطر المناخ.

وخلصت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية إلى أن عدد الوفيات الناجم عن العواصف والفيضانات، وغيرها من الظواهر المناخية المتطرفة، على مدى نصف القرن الماضي، انخفض أكثر من النصف بسبب تحسن أنظمة الإنذار المبكر وإدارة الكوارث. وأدت الاستثمارات في الصحة العامة إلى تقلص عدد ضحايا أمراض مثل الكوليرا، على الرغم من ارتفاع درجات الحرارة وغزارة هطول الأمطار التي يسرت انتشارها.

وجاء في التقرير أنه إذا واصلت درجات الحرارة العالمية ارتفاعها، سيصبح التكيف مع تغير المناخ أكثر صعوبة، في البلدان الفقيرة بخاصة. وترى أديل توماس، الباحثة في مجال التكيف البيئي في جامعة جزر البهاما والتي شاركت في كتابة التقرير أنه «إذا استطعنا تقييد ارتفاع الحرارة عند 1.5 درجة مئوية ستنخفض نسبيا احتمالات تحول مناطق كبيرة وجزر معينة إلى مناطق غير مأهولة» رغم أنها ستظل عرضة للعواصف وارتفاع مستوى سطح البحر. وأضافت أن المستويات المرتفعة من درجات الحرارة «قد تؤدي إلى أن تصبح تلك المناطق غير صالحة للسكن».

وتعهدت دول غنية، قبل عقد، بتقديم 100 مليار دولار سنوياً إلى العالم النامي بحلول عام 2020 للتحول إلى مصادر أنظف للطاقة والتكيف مع تغير المناخ. لكن ما قدموه جاء أقل عشرات المليارات عما تعهدوا به، ولم يتم إنفاق إلا جزء بسيط من الأموال على التكيف. وذكر التقرير أن عدداً من المجتمعات يتصرف على نحو يفاقم هشاشتها. وأحد أسباب تزايد مخاطر الفيضانات على طول السواحل، على سبيل المثال، هو انتقال ملايين الأشخاص إلى المناطق المنخفضة المعرضة للخطر بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر. وبعض تدابير التكيف لها عواقب غير مقصودة. فعلى سبيل المثال، تحمي جدران الصد البحرية أماكن معينة لكنها قد تعيد أيضا توجيه الفيضانات إلى مناطق مأهولة بالسكان في أماكن أخرى. وقد يساعد الري في حماية المحاصيل من الجفاف، لكنه قد يؤدي أيضاً إلى استنفاد موارد المياه الجوفية. ويرى إبيدون أديليكان، أستاذ الجغرافيا في جامعة إبادان في نيجيريا الذي شارك في التقرير أنه «على الرغم من أننا نتحدث عن تغير المناخ منذ فترة طويلة من الزمن»، مازال عدد من المناطق تتطور عبر وسائل تجعل الناس والنظم البيئية أكثر، وليس أقل، عرضة للأخطار.

نحو استراتيجيات أبعد

ويوصي التقرير القادة باتباع استراتيجيات أبعد نظراً. ومع ارتفاع مستوى المحيطات، يمكن نقل التجمعات السكانية الساحلية إلى الداخل، والإحجام عن التطوير على طول الشواطئ المعرضة للخطر. وقد يساعد تحسين الخدمات الأساسية، مثل الصحة والطرق والكهرباء والمياه، في جعل المجتمعات الفقيرة والريفية أكثر قدرة على الصمود أمام الصدمات المناخية.

ويرى إدوارد آر. كار، أستاذ التنمية الدولية في جامعة كلارك والمساهم في كتابة التقرير أن الخيار ليس بين إتباع نهج تحول أم لا، بل «الخيارهو: هل نختار التحولات التي تروقنا؟ أم أننا نتحول بفعل العالم الذي نعيش فيه بسبب ما فعلناه به؟» ويعد التقرير جزءاً من التقييم الرئيس السادس لعلوم المناخ الصادر عن «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ» التي نشأت عام 1988.

وفحص التقرير الأول في السلسلة الذي صدر في أغسطس الماضي، الجوانب العلمية وراء مدى تأثير النشاط البشري في ارتفاع حرارة كوكب الأرض. ويستكشف تقرير منفصل، من المتوقع صدوره هذا الربيع، استراتيجيات للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ووقف الاحتباس الحراري.

* ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»