إذا أردنا استخلاص الدرس الأكثر جوهريةً من الحرب الروسية الأوكرانية، فهو أن النظام العالمي برمته، وليس نظام الأمن الأوروبي فقط، بات في حاجة إلى إصلاح. لم تعد روسيا تقبلُ الوضع الذي تمخض عن انتهاء الحرب الباردة، وجَعَلَهُ المنتصرون فيها جزءاً من قواعد النظام العالمي. وتشاركُها الصين هذا الموقف، لكنها تتعاملُ مع ما لا تقبلُه بطريقة مُختلفة.
وفي المقابل تسعى الولايات المتحدة إلى التصدي لسياسات كل من الدولتين، باستخدام مصادر القوة التي تملكها، لكنها غدت أكثر حدةً في مواقفها تجاههما منذ أن تضمنت استراتيجيتُها للأمن القومي عام 2019 أن «روسيا والصين تستغلان النظام العالمي المفتوح لتقويضه من داخله». 
وما يحدثُ الآن، انطلاقاً من أوكرانيا، تعبيرٌ عن مرحلة متقدمة في هذا الصراع. تحاولُ روسيا الحصول على اعتراف بنفوذ لها في الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، ودول أخرى في شرق أوروبا، وترفضُ أميركا وحلفاؤها مطالبَ روسيا التي قُدمت في صورة ضماناتٍ أمنية. وهذا هو جوهرُ الفصل الراهن من الصراع، والذي تعدُ أوكرانيا ساحته الساخنة بحكم موقعها الحساس، رغم أنها ليست إلا جزءاً من تفاصيله الكثيرة. 

صراعٌ في مطلع العقد الثالث من القرن الـ21 يُدارُ بعقلية القرنين الماضيين. وهذا في حد ذاته مؤشرٌ على انسدادٍ بلغه النظامُ العالميُ الراهنُ، ولا يبدو في الأفق ما يدلُ على وجود فرصة لتجاوزه في وقت قريب، لأسباب أهمُها الاعتمادُ على أدوات ومناهج كانت مُلائمةً لمراحل سابقة شهدت ثلاثة نظمٍ عالمية مُختلفة منذ العقد الثاني في القرن التاسع عشر.
وعلى الرغم من أن الأميركيين لم يعد لديهم كل النفوذ الذي جعلهم في وضعٍ أقرب إلى القوة الأولى عالمياً، وليس القطب الأحادي، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، لم ينضج بعد الظرفُ الموضوعيُ اللازمُ لبناء توافقات جديدة بشأن هذا المستقبل، وإن كان في أنماط تفاعلاتٍ جديدة مرتبطةٍ بسياسات الصين الاقتصادية والتجارية ما قد يخلقُ أرضيةً لها في وقتٍ ما يصعبُ الآن تحديدُه. لكن هذا الوقتَ ربما يطولُ، ومن ثم قد يتعينُ علينا البدء في بحث فرضية أن العالَم ربما يتجهُ صوبَ حالة «اللانظام» لفترةٍ يصعبُ تقديرُ مداها. وتختلفُ هذه الحالةُ عن الفوضى التي تعني انفلات الأوضاع بشكل كامل، ونشوب صراعات وأزمات يتحولُ بعضُها أو كثيرٌ منها إلى حروب. وهذا ليس وارداً في حالة اللانظام، والتي تعني مرحلة انتقال صعبة تسودُها شكوكٌ متبادلة، وتربصُ أطرافٍ بأخرى، واضطراباتٌ متنوعةٌ في العلاقات الدولية.
وإذا صح أن العالم يتجهُ صوبَ حالة «اللانظام» تلك، فستزدادُ الحاجةُ إلى أدوار الدول التي تتسمُ سياستُها بالحكمة، ويقدمُ كل منها نموذجاً، للحد من الاحتقان، حتى تنضج ظروفُ التحول نحو نظام عالمي جديد يؤملُ أن يكون توافقياً، وأن يُساهم في تحقيق استقرار ضروري لمواجهة أخطار تُهددُ الكوكبَ كلَّه.

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية